ما من شك أن أبو عمار اختار الرحيل شهيداً على أن يمضي على فراش المرض، أو وفق شريعة الزمن، أو أن يباغته ملك الموت.
لكننا نشك كثيراً في أنه كان سيختار الطريقة أو التوقيت الذي سجل نهاية حياته. ربما كان الشهيد عرفات، يتوقع أن الطلقة ذاتها التي أسقطت شريكه في عملية السلام اسحق رابين، هي ذاتها التي تضع حداً لرواد مسيرة أوسلو، على أمل أن تتبخّر هذه العملية مع رحيل فرسانها.
وأجزم، أيضاً، أن الشهيد أبو عمار كان يعرف غريمه وقاتله سلفاً، وهو أكثر من عرف، كم من المحاولات التي دبرتها إسرائيل لاغتياله منذ وقت مبكر، وقبل أن تطأ قدماه أرض فلسطين.
ربما لكثرة المحاولات، يطلق عليه البعض عنقاء فلسطين، وبعض آخر يعتبره بسبع أرواح أو أكثر، وبخاصة بعد سقوط وتحطم طائرته في الصحراء الليبية.
عرفات لم يخشَ يوماً أن تكون نهايته على يد واحد من أبناء شعبه، وفيهم من ناصبه العداء، والكره، لكنه كان يعرف أن مثل هذا العمل المجرم لا يصدر عن فلسطيني؛ لذلك ما عاد ضروريا أن تتابع لجنة التحقيق، البحث عن قاتل عرفات الذي قضى بسم نادر، إسرائيل واحدة من الدول التي تمتلكه وهي صاحبة المصلحة الحصرية في إنهاء حياته.
لقد صدر حكم الشعب الفلسطيني في التعريف بالقاتل ولا أظن أن أي لجنة يمكن أن تصل إلى استنتاج مغاير.
لا داعي إذاً لمتابعة المختبرات الروسية أو الفرنسية، أو السويسرية أو غيرها إلاّ فقط من أجل توفير الأدلة المادية التي تؤكد حكم الشعب.
والسؤال هو حتى لو أن أي طرف، تجرّأ على الممانعات القوية التي توفرها الولايات المتحدة وإسرائيل، وقدم مثل هذه الدلائل، فهل سيؤدي ذلك إلى محاكمة المحتل المجرم.
بيد الفلسطينيين، ملفات طافحة بالأدلة الدامغة، التي تدين إسرائيل بارتكاب الكثير من جرائم الحرب، لكن ثمة من يقف بالمرصاد ليمنع مثل هذه المحاكمة، التي ربما لا تتم إلاّ في جلسة المحاكمة النهائية والأخيرة لاحتلال عنصري، لا يأبه بأحكام التاريخ وتغيرات الزمن.
خلاصة الأمر أن عرفات قضى بقرار إسرائيلي أميركي ابتداءً، وبمعرفة وتواطؤ العديد من المراكز الدولية، وربما بعضها عربية.
إذا كانت الرصاصة التي قتلت رابين، قد أرادت إنهاء اتفاقية أوسلو مبكراً ومن طرف واحد، فإن من وقفوا وراء القاتل أرادوا، وربما توقعوا، أن يعلن عرفات الاستسلام للمخططات الإسرائيلية التي تنهي أصغر حلم لدى الفلسطينيين.
لكن عناد الزعيم الراحل، وتمسكه بقضيته وحقوق شعبه وثباته في أرض الميدان، وتحركه الذي لا يتوقف لحظة، هو الذي قاد القتلة إلى أن يضعوا حداً لحياته ولدوره.
إن لم أكن مخطئاً فإن قرار إنهاء حياة الزعيم عرفات، قد صدر بعد فشل المفاوضات في تموز من العام 2000 في كامب ديفيد، والتي خرج منها عرفات رافعاً صوته الجهور بالرفض للمشاريع التي طرحها الثنائي الأميركي بيل كلينتون، والإسرائيلي ايهود باراك.
حين عاد من كامب ديفيد استنجد عرفات بشعبه الذي خرج بصوت واحد، يرفض ما رفضه الزعيم، ويوفر له الحماية والدعم والتأييد الواسع.
عاد عرفات من كامب ديفيد، ليقود انتفاضة شعبية اجتاحت كل أنحاء الوطن الفلسطيني، وتوحّدت فيها كل القوى، والفصائل والفئات الشعبية، وحين استخدمت إسرائيل آلتها الحربية لقتل وجرح مئات الفلسطينيين، أراد عرفات أن يقول لهم ولغيرهم إنه ليس أسير الخيار الواحد، أي خيار المفاوضات والبحث عن التسوية لانتزاع الحقوق.
أراد أن يقول إنه يمكن أن يعود أدراجه الأولى حين امتشق السلاح في العام 1965، وأن يبدأ من جديد، فدعم تشكيل كتائب شهداء الأقصى ومنحها الغطاء السياسي والمادي.
لا شك أن عرفات الحذر وصاحب الرؤية الثاقبة، كان يدرك النتائج المترتبة على ما أقدم عليه من موقف ومن فعل، لكنه ما كان يتوقع أن يقضي شهيداً بالطريقة التي تم استخدامها.
في كل الأحوال، كان سيصمد وسيقود من عرينه في المقاطعة المعركة، وهو واثق أن شعبه لن يبخل عليه وعلى القضية بمزيد من التضحيات.
لم يخذل الشعب زعيمه رغم كل التباينات والاختلافات، ولكن إذا جاز لنا أن نشير بإصبع الاتهام لمن خذلوا الرئيس، فهم أولئك الذين اجتمعوا في بيروت، تحت قبة القمة العربية، الذين أشاحوا بوجوههم عنه، واكتفوا بأن يلقي كلمته في القمة من خارج القاعة.
أبو عمار القائد والرمز والرئيس يستحق أن يتحوّل قبره إلى مزار، وأن يُقام باسمه متحف، وأن يحظى كل عام في ذكرى استشهاده بخروج الملايين إحياءً لذكراه.
عرفات هو صاحب الطلقة الأولى، ومفجّر الثورة، والقافز بمنظمة التحرير الفلسطينية فوق الحسابات الاستخدامية العربية، حتى باتت عنوان الهوية، وعنوان وحدة الشعب والتمثيل الحصري.
وإذا كان المجال لا يتسع، ولا تتسع كتب لاحتواء مميزات الرجل ودوره على مدار نحو خمسين عاماً، فيكفيه أنه صانع العجب الذي اسمه حركة فتح العصية على الذوبان.
لقد أدرك عرفات أن كلمة فلسطين أقوى من كل الأيديولوجيات وأقوى من كل النظريات، وهي التي توحِّد المختلفين حد التناقض، فكانت فتح تستحق أن تكون أم الوطنية الفلسطينية، وقائدة حركة التحرر الفلسطينية.