بقلم-طلال عوكل
من المرات القليلة، التي تلجأ فيها الولايات المتحدة، إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، لتمرير قرار، لم تنجح في تمريره من خلال مجلس الأمن، حيث تتوقع "فيتو" من قبل روسيا أو الصين، أو انها تفشل في الحصول على أغلبية من قبل الأعضاء غير الدائمين في المجلس.
الكبرياء المزيف للدولة العظمى، والاستهتار بمواقف وأدوار الدول الصغيرة والضعيفة، التي تتشكل منها الجمعية العامة للأمم المتحدة، لا تجعل الولايات المتحدة، مستعدة للذهاب إلى هناك، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالصراع الفلسطيني والعربي الإسرائيلي، وحقوق الفلسطينيين.
ساحة الجمعية العامة، هي ساحة الفلسطينيين بامتياز، وفيها يحرز الفلسطينيون الإنجاز تلو الآخر، وبأغلبية متزايدة، كما حصل مؤخراً عند التصويت على القرار الايرلندي، الذي يؤكد الحقوق الفلسطينية وحصل على تصويت من قبل 156 عضواً.
خلال التصويت على القرار الأميركي بإدانة حركة حماس والجهاد، حاولت الولايات المتحدة اقتحام القلعة، واستخدمت كل ما بحوزتها من إمكانيات الضغط والابتزاز، لكسر المعادلة، مستغلة رهاب الإرهاب الذي يجتاح العالم، وباعتبار أن المقاومة الفلسطينية المسلحة، هي شكل من أشكال الإرهاب، وتستغل الولايات المتحدة، ارتباط ظاهرة الإرهاب بالجماعات الإسلامية، ولكون من يتصدر هذه المقاومة في فلسطين، حركات إسلامية متجاهلة أن ثمة حركات، وجبهات غير إسلامية تتبنى وتمارس هذا الشكل من أشكال المقاومة وإن كانت بفعالية أقل.
الغريب في الأمر أن الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، يتحدثان عن انتصار عبر عنه التصويت. إسرائيل تعتبر أن تصويت 87 دولة لصالح القرار الأميركي يشكل تقدماً كبيراً، بالقياس لعديد القرارات، المتعلقة بالشأن الفلسطيني، التي لم يقف مع إسرائيل فيها إلاّ عدد قليل من الدول. الفلسطينيون، أيضاً، يتحدثون عن انتصار الدبلوماسية الفلسطينية في إفشال القرار الأميركي، الذي لم يحصل على نسبة الثلثين المطلوبة لتمريره. لكن الطرفين، أيضاً، مهزومان بمعنى أو بآخر، فلقد فشل القرار الأميركي لكنه حاز على موافقة عدد كبير من الأصوات، وفشل الطرف الفلسطيني في تحجيم التصويت لصالح القرار الأميركي، بحصوله فقط على 57 صوتاً ضد القرار الأميركي.
يشعل هذا التصويت الأضواء الحمر كلها، فالولايات المتحدة كما يقول رياض منصور، المندوب الدائم لفلسطين في الأمم المتحدة ستعاود طرح القرار على الجمعية العامة، ما يعني أن الولايات المتحدة ستشتغل بقوة وتستخدم إمكانيات أكبر في الضغط على الدول التي لم تصوت لصالح القرار. ليس هذا وحسب بل ان حصول القرار الأميركي على هذا القدر من الأصوات، ينطوي على خطورة بالغة من حيث إنه يعكس موقف الرأي العام الدولي، خصوصاً الفاعل منه، إزاء الحق الفلسطيني في ممارسة كافة أشكال النضال التي تجيزها مواثيق الأمم المتحدة. وبالتأكيد فإن إسرائيل ستستغل هذا المناخ الدولي، للتغطية على جرائم يمكن أن ترتكبها بحق الفلسطينيين، بالادعاء أنها تواجه "الإرهاب"، وهذه المواجهة "للإرهاب" لا تستدعي وجود مبررات أو ذرائع، ولا تلتزم بتوقيتات محددة، إلاّ ما تراه إسرائيل مناسباً.
في الواقع علينا أن نفصل بين تصويت على شكل من أشكال النضال وهو المقاومة المسلحة، وبين التصويت على الحقوق المتعلقة بالقضية الفلسطينية على الرغم من أن أي مساس بالحق الفلسطيني الشرعي بممارسة شكل المقاومة المسلحة لإنهاء الاحتلال، إنما يشكل مساساً بحق تكفله الشرعية الدولية لكل شعب يقاوم احتلالاً.
مخطئ جداً، ولا يفهم ألف باء السياسة من كان يعتقد من الفلسطينيين أو غيرهم، بأن منظمة التحرير الفلسطينية، وجهاز الدبلوماسية الفلسطينية يمكن أن يتهاونا في مواجهة مثل هذا القرار الأميركي، انطلاقاً من حسابات الانقسام.
لقد تصرفت المنظمة والدبلوماسية الفلسطينية من واقع التزامها العميق ومسؤوليتها إزاء الوطنية الفلسطينية، وموجبات الدفاع عن الحقوق الفلسطينية، وقد اجتهدت في إفشال القرار الأميركي، ونجحت في ذلك وستفعل ذلك مجدداً في كل مرة. لم يكن ذلك السلوك، مجرد عربون أو رسالة إيجابية، نحو "حماس" أو "الجهاد"، تنتظر مقابلاً لها بالعلاقة مع المساعي الجارية والمتعثرة لإنهاء الانقسام الفلسطيني.
بعد وفي ضوء مجريات ونتائج التصويت ننتظر أن يتعلم الآخرون مدى أهمية الانطلاق من أرضية الوطنية الفلسطينية في النظر للعلاقات الداخلية ونحو تغليب التناقض الرئيسي على التناقضات الثانوية فالأولى تحل من خلال النضال بكل أشكاله، أما الثانية فلا حل وطنياً لها إلاّ من خلال الحوار، والصدق في بناء الشراكات.
لا يكفي تقديم الشكر، للرئيس، أو للدكتور رياض منصور على فعل واجب بحكم الالتزام الوطني، وإنما الأهم القراءة العميقة، لأبعاد الحدث من كافة جوانبه، واستخلاص الدروس والعبر، التي أولها يشير إلى مدى أهمية الشرعية، والمؤسسة الوطنية الجامعة، حتى لو تطلب ذلك تقديم تنازلات، ذلك أن التواجد خارج هذه المؤسسات، ينطوي على مخاطر ليس على القضية وحسب وإنما، أيضاً، على الوجود والدور.
في هذا السياق لا بد من ملاحظة أن ما كان صحيحاً بالأمس قد لا يكون صحيحاً اليوم، أو غداً، فقد تتبدّل الحسابات، فتكون المقاومة هدفاً وواحداً من استحقاقات، تسريع "صفقة القرن" التي يستعجل الإسرائيليون فرضها بالاستفادة القصوى من وجود رئيس أميركي من هذا النوع.
إن الوقت من ذهب فعلاً، ذلك أن العام القادم الذي أصبح على الأبواب، هو عام الحسم، عام التطورات الكبيرة في المنطقة، ارتباطاً بصفقة القرن، الأمر الذي يستوجب الاستعجال في ترميم البيت الفلسطيني لحماية الكل الفلسطيني.