زيارة رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي إلى تل أبيب ولقائه نظيره الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ليست زيارة عادية يمكن المرور عليها مرور الكرام، فهو أول رئيس وزراء هندي يحط في إسرائيل، وزيارته هذه تعني بالضرورة تحولاً في العلاقات الهندية- الإسرائيلية يسير نحو الشراكة الاستراتيجية.
أسباب التحول هذه كانت تختمر على مهل، فهي اكتملت بالفعل وبشكل رسمي حين استلم مودي رئاسة الوزراء عام 2014، وكان معروفا للجميع علاقته بسياسيين إسرائيليين وشركات اقتصادية حين كان رئيساً للوزارة المحلية لولاية جوجارات الهندية.
قبل صعود مودي إلى السلطة كانت أول حكومة بقيادة حزب «بهاراتيا جاناتا»، تقفز في المعلوم نحو تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية مع إسرائيل، فهذه الحكومة التي استلمت السلطة عام 1999، زار وزير خارجيتها جاسوانت سينج إسرائيل لأول مرة، وهي أول مرة تقوم فيها شخصية هندية رفيعة المستوى بزيارة تل أبيب.
زيارة سينج إلى تل أبيب أعطت زخماً كبيراً للعلاقات الاقتصادية والتجارية مع إسرائيل، فقد كان التبادل التجاري بين البلدين لا يرقى إلى مبلغ 200 مليون دولار عام 1992، غير أنه شهد تحسناً كبيراً ووصل حجم التبادل التجاري إلى أكثر من 6 مليارات دولار في هذه الأيام.
هذا على الصعيد التجاري، دون احتساب صفقات الأسلحة واعتبار الهند تل أبيب مصدراً رئيسياً للسلاح، حيث تشتري ما قيمته مليار دولار سنوياً من إسرائيل على أسلحة تتعلق بالنظام الدفاعي الصاروخي وطائرات بدون طيار، فضلاً عن أجهزة رادار وأنظمة الاتصالات وأخرى للأمن الإلكتروني.
مودي حين قرر زيارة تل أبيب قرر أيضاً عدم زيارة رام الله ومن ثم عدم لقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وهذا الموقف يؤكد على أن رئيس الوزراء الهندي لا يرى ضرورة في بقاء الهند عند حالها، من حيث مراعاة الفلسطينيين وحقوقهم المشروعة في التحرر والانعتاق من الاحتلال الإسرائيلي.
أساساً قبل زيارته تل أبيب تغزل مودي بالدولة العبرية وقال إنها وبلاده لديهما صلة عميقة تعود إلى قرون، وهو حين يتحدث بهذه اللغة فإنه متأكد من أن تحسين علاقته بإسرائيل ستجلب له الكثير من المنفعة.
القصد من ذلك أن مودي وحزبه أحدثا تحولاً كبيراً في العلاقة مع إسرائيل على حساب الفلسطينيين، ذلك أن الهند كانت تقيم وزناً للعرب سياسياً واقتصادياً، وتعكس الدور العربي في طبيعة علاقتها بجارتها باكستان التي ترتبط بها بحرب باردة وساخنة تتعلق بخلافات حدودية وأخرى تتجاوز قضايا الحدود بين البلدين.
المعنى أن الهند وقفت على مسافة من إسرائيل لأنها مرتبطة بعلاقات اقتصادية سياسية مع الدول العربية، فقد كانت تحصل على النفط منهم ومن إيران، وتدرك أن وجودهم إلى جانبها سيضمن لها أريحية في المناورة السياسية، خصوصاً وأن الحديث عن الأقلية المسلمة في الهند يعني الحديث عن حوالي 200 مليون شخص.
غير أن مودي غير هذه المعادلة، استدراكاً منه أن بعض العرب أنفسهم منخرط في علاقات مباشرة مع إسرائيل، إلى جانب أن الأوضاع العربية- العربية ليست في أفضل حالاتها، ولا ينظر هؤلاء كثيراً إلى أي انحراف صغير أو كبير في مسار العلاقات الهندية- الإسرائيلية.
إلى جانب ذلك مودي نفسه يدرك أن تمكين علاقاته مع إسرائيل لن يحدث تلك الجلبة من قبل السلطة الفلسطينية، انطلاقاً من أمرين، الأول أن الفلسطينيين منقسمون على أنفسهم وهذا الانقسام يضعفهم في كل تحركاتهم، وثانياً تحتاج السلطة الفلسطينية إلى عدم تصعيد الخلاف مع الأصدقاء والأعداء.
ثم إن رئيس الوزراء الهندي حين ذهب إلى تل أبيب، تجاوز في التركيز على صفقات السلاح وتلك التجارية والأمنية والزراعية والغذائية، إلى التركيز على القيم والروابط والثقافات المشتركة بين البلدين، وهو مقتنع أن تطوير علاقاته مع إسرائيل سيحقق له أفضلية في مجالات كثيرة.
سعي الهند إلى تطوير هذه العلاقات والانفتاح على تل أبيب اقتصادياً وعسكرياً، يأتي انطلاقاً من رغبة مودي في تمكين بلاده دولياً وإقليمياً، أضف إلى ذلك أن الهند تسعى إلى تعزيز قدراتها الدفاعية الصاروخية للتحوط مما تراه أخطاراً إقليمية قد تتهددها في ظل وجود نزاعات حدودية مع الصين والحروب والتوترات المتواصلة مع باكستان على خلفية قضية كشمير وغيرها من القضايا الأخرى.
قبل عدة أشهر أنفقت الهند حوالي 2.6 مليار دولار على شراء نظام دفاعي صاروخي من إسرائيل، وهي اليوم تعمل على تصنيع طائرات حربية وأخرى بدون طيار، مستفيدةً من صفقات السلاح مع إسرائيل التي تخول لها لاحقاً نقل المعرفة نحو تطوير قدراتها العسكرية.
نتنياهو الذي وصف زيارة مودي بالتاريخية، ينطلق من أن تطوير العلاقات مع الهند ضروري وحيوي لأمنها وإيجاد سوق كبير وجاذب لمنتجاتها، فقد كان رئيس الوزراء الإسرائيلي حريصاً على تمييز نظيره الهندي في هذه الزيارة وهو ما حصل بالفعل.
في حقيقة الأمر الهند ليست دولة عادية، وحين يسعى نتنياهو إلى تمكين علاقته بها، فإنه يعلم أن الحديث هنا عن ثاني أكبر دولة في العالم بعد الصين من حيث الخزان البشري، فضلاً عن كونها واحدة من الدول الصاعدة اقتصادياً وعسكرياً، والثانية من حيث القوة بعد الصين في قارة آسيا.
إسرائيل حتى وإن زارها مودي، ظلت طوال عقود تتطلع إلى تحسين علاقاتها بآسيا وإفريقيا تحديداً، وتنظر بأهمية شديدة إلى كل من الصين والهند، كما تنظر في ذات الوقت إلى أهمية روسيا التي تسعى مع الصين إلى تغيير شكل النظام الدولي.
زيارة مودي إلى إسرائيل هي تحول فعلي في العلاقات مع تل أبيب، والفلسطينيون والعرب هم الخاسر الوحيد من هذه الزيارة، لأنها لا تقتصر على اجتماعات ومناسبات لأخذ وتبادل الصور، بقدر ما أنها تؤسس لشراكة استراتيجية بين البلدين.
ثم إن عدم ذهاب رئيس الوزراء الهندي إلى رام الله، يشي بأن مودي موافق ضمنياً على السياسات الإسرائيلية الاحتلالية والاستيطانية، ويشي أن الرجل ماضٍ في تقوية وتعزيز علاقته بتل أبيب على حساب الفلسطينيين والعرب المنغمسين حتى العظم في شؤونهم الداخلية وترك الساحة أمام اللاعبين الدوليين والإقليميين للاستفادة من مزايا القوة وهم كثر وإسرائيل من بينهم. وقد ثمّن نتنياهو هذه الخطوة الهندية.