ليس للإسرائيلي أن يشعر بالاستقرار والطمأنينة والأمن طالما أن الفلسطيني يعاني استمرار الاحتلال، بكل مواصفاته البشعة والإجرامية. الفلسطيني والإسرائيلي طرفان في معادلة واحدة، فكل وجع يصيب طرفاً فإنه بالتأكيد سيصيب الطرف الآخر، ويخل بالمعادلات الطبيعية. واضح أن إسرائيل تنجح في فرض مخططاتها التي تتعارض مع كل ما هو طبيعي ومنطقي على الكرة الأرضية، وتعتمد في ذلك على جملة من العوامل، أولها استخدام كل وسائل الإرهاب والقمع والعقاب الفردي والجماعي، وإنكار الحقوق التي أقرتها الأمم المتحدة وحظيت بموجبها إسرائيل بالشرعية الدولية عند إعلان قيام الدولة عام 1948. لكنها، أيضاً، تعتمد كلياً على الولايات المتحدة في حماية نفسها من العقاب، خصوصاً وقد وصلت السياسات الأميركية في عهد ترامب إلى مستوى متقدم جداً من التطابق مع السياسات والاستراتيجيات والأهداف الإسرائيلية.
وتستغل إسرائيل أيّما استغلال الظروف التاريخية الصعبة والمعقّدة التي تمر بها الأمة العربية، وفي الأصل فإنها مع الولايات المتحدة، تشتركان في خلق وتعظيم المصائب الكبرى التي تعاني منها الأمة العربية منذ العام 2010. وإسرائيل التي لعبت دوراً أساسياً في وقوع الانقسام الفلسطيني، وتواصل العمل بكل قوة لإدامته، تستغل هذه الحالة الخطيرة والبائسة التي يمر بها الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية ونظامه السياسي.
لكن إسرائيل مع كل ذلك، لا يمكنها أن تحقق الحد الأدنى من الاستقرار والشعور بالأمن والأمان، طالما أن الشعب الفلسطيني موجود على أرضه وفي كل أرض، ويواصل إبداعاته في المقاومة، واقتحام موسوعة غينيس، بمفردات ومصطلحات جديدة.
حين انفجرت الانتفاضة الشعبية الكبرى عام 1987، لم تكن الظروف الاجتماعية والكفاحية للفلسطينيين، سيئة إلى الحد الذي ينبئ باندلاع انتفاضة تستمر لسبع سنوات، الانتفاضة الثانية عام 2000 كانت لها أسبابها ودوافعها، لكن أحداً لم يكن يتوقع أن تكون دامية ومرهقة جداً بالنسبة للإسرائيليين كما كان الحال إبان تلك الانتفاضة.
الحديث عن الانتفاضات لا يحملنا وزر تقييم مجرياتها ونتائجها وما إذا كانت حققت أهدافها وأي أهداف، لكنها نقلت الوضع الفلسطيني إلى وضعية أخرى، فمن الصاروخ البدائي، إلى ترسانة من الصواريخ والإمكانيات الكبيرة والإبداعية التي تملكها فصائل المقاومة، حتى أخذ يرتفع الصوت بالحديث عن الردع والردع المقابل.
منذ الثلاثين من آذار هذا العام، اختلفت وسائل التعبير عن الفعل الفلسطيني في المناسبات التقليدية، التي تطفح بها الرزنامة، حيث تتقارب المسافات الزمنية بين كل مناسبة والتي تليها.
جربت إسرائيل قدرتها على مواجهة الإرادة الشعبية الفلسطينية حين حاولت تغيير وضعية المسجد الأقصى، وفرض السيطرة عليه، لكنها فشلت وارتدت على أعقابها، ولكن دون أن تتراجع عن مخططاتها، حيث تزايدت الموجات التي تقوم بها عصابات المتطرفين وحتى الرسميون وتحاول اقتحام المسجد الأقصى بصورة يومية.
حين تفشل إسرائيل تتقدم الولايات المتحدة، بالتعويض، وتقديم الحماية والدعم، فإذا كانت إسرائيل فشلت في معركة البوابات الالكترونية في المسجد الأقصى، فإن الولايات المتحدة تبادر لـ «منحها» القدس، وتتنطح بكل أشكال الابتزاز لتعظيم تلك الهدية من خلال إرغام دول أخرى على نقل سفاراتها إلى القدس.
قبل يومين مرت الذكرى الواحدة والخمسون لهزيمة حزيران عام 1967، تلك الهزيمة التي شكلت نقلة نوعية من حيث أنها كانت المقدمة، لحرب تشرين 1973، كآخر الحروب العربية الإسرائيلية، وخروج الجيوش النظامية من معادلة الصراع، ومن حيث أنها شكلت البداية للنهوض الوطني الفلسطيني وتبلور الهوية الوطنية وتقدم الفلسطينيين نحو تحمل المسؤولية الأولى عن قضيتهم.
وبالنظر لنتائج تلك الهزيمة، وبعد عقود من الصراع، وعقود من البحث عن الحقوق الوطنية، من خلال المفاوضات، يصل الفلسطينيون إلى محصلة تشير إلى أن الصراع مع الاحتلال والأطماع الصهيونية يعود إلى بداياته بل يتجاوزها، لأن تلك الأطماع لا تقف عند حدود احتلال كل أرض فلسطين التاريخية، بل تتعداها نحو توسيع هذه الأطماع لتشمل المحيط العربي القريب والبعيد.
لا تدرك إسرائيل أن ما تحظى به من نجاح في هذه المرحلة لا يشكل نهاية التاريخ، وأن الوقائع ذاتها التي تجعل قادتها يشعرون بالنصر، هي ذاتها التي تؤشر إلى بداية مرحلة التراجع التاريخي للمشروع الصهيوني.
لا نقصد أن الحراك الشعبي السلمي المبدع شرق قطاع غزة، وما تسببه الطائرات الورقية وغيرها من الإبداعات الشبابية، على أهمية ذلك، هو ما يبرر لنا الاستنتاج ببداية أفول نجم الصهيونية، فالمسألة تتجاوز ذلك حتى لو أن مثل هذه الإبداعات تؤكد على حقيقة أن الشعب الفلسطيني قادر على خلط الأوراق، وقلب الطاولة على الكل.
الأساس أن إسرائيل ربطت مصيرها بمصير الولايات المتحدة، حتى أخذتها معها إلى عزلة دولية متزايدة، يضاعف خطورتها السياسات الحمقاء التي تديرها الطغمة الصهيونية المتأمركة في البيت الأبيض الأميركي.
سيصحو الأميركيون يوماً لكي يتساءلوا بغضب عن علاقات بلادهم مع دول العالم وتجمعاته بما في ذلك أقرب الحلفاء التاريخيين، وأبناء جلدتهم الرأسمالية الاستعمارية فلا يجدوا حتى إسرائيل التي ستبحث عن حليف آخر يتبناها.
أميركا ترامب تتصرف بحماقة واستفزاز شديد، مع الأعداء والحلفاء، بل إنها تلحق الكثير من الأضرار الاقتصادية بحلفائها الأقربين، فإن جاءت لحظة المواجهة مع من تعتبرهم أميركا أعداءها الحقيقيين، فإنها لن تتمكن من إعادة بناء الثقة والشراكات مع من سايروها في حروبها السابقة، دون أن يحصلوا على الحد الأدنى من المكافأة.