يبدو أن جيلنا الذي يقود النضال الفلسطيني، غير قادرٍ على التعلم من آليات اتخاذ القرار وبناء الخطط والاستراتيجيات، كما يفعل العدو الصهيوني.
الفارق بين نجاحهم وفشلنا لا يفسره فقط امتلاك إسرائيل لأدوات القوة العسكرية التدميرية الغاشمة، واختلال موازين القوة لصالحه، فثمة أسباب أخرى. لعلّ أهم هذه الأسباب، يتعلق بمأسسة اتخاذ القرار وبناء الخطط والاستراتيجيات والأهداف البعيدة والقريبة.
ثمة احترام لمؤسسات التفكير، والمواكبة لعملية التجديد والتغيير، والتلازم بين ما يتم اتخاذه من قرارات، والاجتهاد لوضعها موضع التنفيذ العملي.
لسنا بحاجة لمراجعة المخططات الإسرائيلية حتى نتأكد من ذلك كما أننا لسنا بحاجة للمراجعة حتى نتأكد أن الفلسطينيين أخفقوا في تعلم الدرس رغم طول فترة الصراع، وحجم التضحيات.
لم يأتِ بجديد المندوب الإسرائيلي في الأمم المتحدة حين قال أمام الجمعية العامة إن مصير قراراتها سيذهب إلى مزبلة التاريخ، فلقد نشأت إسرائيل واستمرت وهي تتحدى الأمم المتحدة
وقراراتها دون أن تتعرض لأي إجراء عقابي من الأمم المتحدة، وهي ستواصل ذلك طالما أن الولايات المتحدة قادرة على حمايتها، وطالما بقيت القوى الدولية الأخرى عاجزة.
إسرائيل تبادر كل الوقت الى اتخاذ الإجراءات والقرارات التي تجعلها تنجح في تنفيذ مخططاتها، بينما يقف الفلسطينيون في موقع ردود الفعل، وفي معظم الأحيان، تتسم ردود الفعل بالتردد والتأخير.
حصل الفلسطينيون على تعاطف المجتمع الدولي فيما يتعلق بالقدس، وملفات الأمم المتحدة ومؤسساتها طافحة بالقرارات التي تؤكد حقوقاً منقوصة لصالح الفلسطينيين مقارنة بحقوقهم التاريخية، غير أن هذا التعاطف لم يتحول إلى فعل ملموس، أو سياسات إجرائية عقابية لإسرائيل، أو ملموسة في دعم الحقوق الفلسطينية.
هذه الاعترافات لا تشكل دعماً لإسرائيل وإعجاباً بها وبكل ما يصدر عنها بقدر ما أنها تنطوي على حسرة ونقد للأداء الفلسطيني الذي ينبغي أن يتغير على الفور وقبل إطلاق صيحة «أُكلنا يوم أُكل الثور الأبيض».
بعد القرار الأميركي الذي يتحدى العالم ويتحدى القوانين والقرارات الدولية، بدأت إسرائيل في تصعيد مخططاتها تجاه القدس، وأيضاً تجاه الضفة الغربية. ستة عشر مركزاً أمنياً جديداً ستضاف في القدس لدعم التواجد الأمني والعسكري والشرطي الإسرائيلي الكثيف في المدينة المقدسة.
إذا كان هذا أول الغيث الأسود، فإن الكنيست الإسرائيلي قد بدأ، أمس، مناقشة مشروع قرار يمنع أي حكومة من التفاوض حول القدس.
تفترض إسرائيل أن ثمة إمكانية لمفاوضات بعد أن تغلق هذا الملف، غير أن السياسة الإسرائيلية لن تتوقف عند حدود اتخاذ قرار تشريعي من هذا المستوى، بل أن ذلك سيكون إيذاناً بمرحلة جديدة ومخططات إجرائية لإرغام أهلها الفلسطينيين على المغادرة.
وفي أروقة الليكود تجرى مناقشات لتقديم مشروع قانون بإعلان السيادة الإسرائيلية على ما يسمونه «يهودا والسامرة» وحتى لو أن الكنيست، قد لا يقر مثل هذا القانون في قادم الأيام والشهور، لكن مجرد تداول هذه الفكرة، يعني أنها على أجندة المخططات الإسرائيلية، التي ستختار الحكومة الوقت والظروف المناسبة لتنفيذها، هذا إذا لم يكن ما تقوم به إسرائيل في الضفة منذ وقت طويل، يصب في تنفيذ هذه الفكرة.
هل يكفي ما ورد من إجراءات وقوانين وقرارات إسرائيلية للتأكيد على أن قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، إنما هو إعلان متأخر عن فشل كل نهج التسوية من خلال المفاوضات، وأنه يذهب باتجاه دفع الصراع إلى أقصى مدى له؟.
هل سيقتنع الفلسطينيون أن كل ما جرى منذ توقيع اتفاقية اوسلو حتى يومنا الراهن، إنما يدفع الصراع إلى أساسه وبداياته الأولى بما أنه صراع على كل الأرض وكل الحقوق الوطنية التاريخية؟.
أفهم تماماً أنه يمكن التمييز بين وضع استراتيجيات تقوم على حقيقة أن الصراع صراع وجود وليس صراع حدود، وبين أن يستمر الخطاب الإعلامي في الحديث بلغة يفهمها العالم، غير أن أحداً لا يمكنه أن يفهم أو يتفهم لماذا يكون الأداء الفلسطيني السياسي العام، مختلاً إلى هذه الدرجة التي تقوّض عوامل صمود المواطن الفلسطيني، الذي ينبني الصراع على وجوده على أرض وطنه.
كما أن لا أحد يمكنه أن يفهم أو يتفهم أسباب استمرار الانقسام وتعطل المصالحة عند خطواتها الأولى، ذلك أن خوض معركة القدس لا يبرر إطلاقاً، التأخير في إنجاز المصالحة واستعادة الوحدة، كأول وأهم فعل فلسطيني مطلوب لتعظيم الاشتباك، والتحضير لصراع ضار تؤشر اليه طبيعة المخططات الإسرائيلية.
إذا كان الموقف السياسي النظري من قبل العرب والمسلمين إزاء موضوع القدس فإن الموقف العملي الإجرائي، غير واضح، وذلك بسبب غياب الوضوح عن الموقف العملي الإجرائي الفلسطيني الذي عليه أن يحدد معايير السياسة العربية والإسلامية.
في الكواليس تدور أفكار بائسة عن عرب تتناقض مواقفهم العملية مع مواقفهم النظرية المعلنة، فهل سيبقى الموقف الفلسطيني مجاملاً أو متستراً على تلك المواقف؟ولماذا يتأخر الحوار الوطني الفلسطيني، وتغيب المؤسسات الوطنية عن الاجتماعات للبحث في صياغة الردود الفلسطينية لمواجهة التحديات التي تنشأ على الأرض، ولإدارة حراك شعبي، وسياسي مبني على الوضوح؟ لم يعد ثمة وقت أو مجال لمواصلة التفكير من داخل الصندوق، خاصة بعد أن كسرت الولايات المتحدة وإسرائيل كل صناديق التفكير السياسي التي حكمت المرحلة السابقة، وفي هذه الحالة لا ينطبق المثل الشعبي الذي يقول إن «كل تأخيرة فيها خيرة» ذلك أن إسرائيل هي أفضل من يستثمر الوقت لخلق المزيد من الوقائع الخطيرة.
في الأخير فإن الوضوح خير من الغموض، وإسرائيل بما تفعل تستعجل السقوط في وحل العنصرية، الأمر الذي سيقرب من نهايتها المحتومة، ولكن العمل السياسي الناجح يستهدف اختصار الزمن واختصار الثمن.