بقلم :طلال عوكل
من المحزن أن يسود التشاؤم المشهد السياسي والثقافي الفلسطيني والذي يسيطر حتى على خطاب النخب الفكرية والسياسية، بما في ذلك الكتاب والصحافيون، ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي. ثمة ما يدعو للتشاؤم وهذا أمر لا يمكن إنكاره، ذلك أن وقائع الحياة اليومية في سياق الصراع مع الاحتلال، وفي ظل الانقسام، كل ذلك يشهد على أن حياة الناس ليست بأفضل حال. قياس الأفضلية لا يعني أن الناس يمكن أن يهنؤوا بحياة رغيدة ومستقرة، في ظل سياسات الاحتلال لكن السؤال هو: هل يمكن للفلسطينيين أن يعيشوا حياة أفضل من راهنها لو أن الفلسطينيين كانوا على قلب رجل واحد، وانشغل الكل في تعزيز صمود المواطن الفلسطيني على أرضه؟
غير أن سؤال التفاؤل والتشاؤم، يسوق الكثيرين إلى استسهال، خطاب الشكوى والبكاء، والسوداوية إزاء مكانة القضية الفلسطينية على الصعيدين العربي والدولي. هنا نحتاج إلى قراءة أعمق وأكثر موضوعية، حتى لا يبدو أن الكفاح الفلسطيني المكلف، يذهب مع كل ريح تهب على المنطقة أو العالم. اتفاقية أوسلو التي حكمت بشكل عام مجرى الكفاح الفلسطيني منذ أربعة وعشرين عاماً، أدخلت القضية والشعب، وقواه الحية في مرحلة صعبة وخطيرة لكنها لم تلقِ باللون الأسود على كل المشهد الفلسطيني، فلقد ظلت بقع ضوء تزداد سطوعاً، رغم كل الآلام.
أقصد هنا أنه بحسابات العقل والمنطق، فإن التسونامي الذي اجتاح المنطقة العربية منذ سبع سنوات، ولا تزال مفاعيله حتى اللحظة بل إنه أي التسونامي لا يزال في أوج حراكه، لا يمكن أن يمر هكذا من دون تأثير سلبي على الأولويات العربية، فيما هو يدمر الكثير من الإمكانيات. قد نلوم النظام العربي الرسمي، الذي تجاهل، أهمية إدارة الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي الذي لا يصادر الحقوق الفلسطينية والعربية، وإنما يتآمر، أيضاً، على وحدة واستقرار الدولة الوطنية. كان بالإمكان تجنب كل هذا الدمار وهذا الكم الهائل من الضحايا، والمخاطر التي تتهدد الجغرافيا الوطنية، وكانت التكلفة ستكون أقل لو أن النظام العربي اتجه نحو فتح الصراع مع الاحتلال بدلاً من الانسياق وراء الصراعات الداخلية، التي غذتها المخططات التقسيمية.
ولكن هل يمكن توجيه اللوم سواء للأنظمة العربية الرسمية أو للأحزاب التقليدية، أو للجماهير العربية، لأنها تتجاهل أولوية القضية الفلسطينية باعتبارها القضية المركزية الأولى للأمة العربية؟ الجواب بالتأكيد: لا، ذلك أن الخطر داهم والحبال تلتف حول من نسألهم أن يهتموا بالقضية الفلسطينية أكثر من اهتمامهم بوجودهم وبمصالحهم وحقوقهم وبلدانهم وأنظمتهم.
سينعكس كل ذلك على كل المؤسسات العربية الجامعة، التي حافظت على خطابها التقليدي وقراراتها المكرورة، إزاء القضية الفلسطينية حيث يكثر الكلام، وتتضاءل الأفعال. ولكن بالإضافة إلى ذلك هناك بقع ضوء، فمرزوق الغانم رئيس مجلس الأمة الكويتي لم يكن يعبّر عن موقف شخصي حين طرد رئيس الكنيست الإسرائيلي وفريقه من اجتماع البرلمانات العربية.
والبرلمان المغربي لا يعبّر عن أشخاصه، فهو منتخب ديمقراطياً، من الشعب المغربي، ويعبّر عن رأي هذا الشعب حين طرد وزير الدفاع الإسرائيلي السابق عمير بيرتس. وكذلك الحال حين بادر الوفد الشبابي اللبناني لطرد الوفد الإسرائيلي من مؤتمر الشباب العالمي. فوق هذا وقبل هذا نسأل ما إذا كانت إسرائيل قد حظيت أو تحظى برضى الشعبين المصري والأردن، رغم توقيع اتفاقيات سلام، مرت عليها عقود من الزمن؟ ربما كان الوضع العربي ليس بأفضل أحواله، وربما يتجه البعض إلى تقديم أولويات أخرى على القضية الفلسطينية، خصوصاً في هذه المرحلة الحرجة، لكن القضية والحقوق الفلسطينية العربية، ظلت وستظل تعيش في أنفاس كل العرب.
هنا علينا ألا نتجاهل أن الأداء الفلسطيني منذ عشر سنوات من الانقسام، كان هو الآخر سبباً في ضعف الاهتمام العربي الشعبي والرسمي بالقضية الفلسطينية. لا شك في أن بعض الأنظمة تذرّعت بالانقسام الفلسطيني للتخلي عن واجباتها القومية تجاه الشعب الفلسطيني وقضيته، وبعضها يتمنى أن يأتي اليوم الذي يلقي فيه بأحمال القضية الفلسطينية عن أكتافه التي تضيق ذرعاً بها.
أما على المستوى الدولي، فربما كانت الأمور أكثر وضوحاً من حيث تزايد اهتمام ومناصرة المجتمعات بما في ذلك الغربية، للحقوق الفلسطينية، حين ألقى الغانم كلمته، صفق له كل من فيالقاعة، ما يعني أن البرلمانات العالمية التي تمثل مجتمعاتها، تجتمع على حقيقة رفض الجرائم التي يرتكبها الاحتلال. في كل المحافل الدولية التي يتقدم فيها الفلسطينيون بمبادرات أو قرارات، تخص القضية الفلسطينية والصراع مع الاحتلال، يصوت غالبية ساحقة من الدول إلى جانب تلك المبادرات والقرارات. حيث يفقد الفيتو الأميركي، أو فيتو الدول التي ساهمت في خلق المشروع الصهيوني، يجد الفلسطينيون أنفسهم أسياد الموقف.
بمراجعة سريعة بل خاطفة، نالت فلسطين عضوية مراقب بأغلبية أصوات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكذلك الحال في اليونيسكو، والمجلس العالمي لحقوق الإنسان، وفي منظمة الشرطة الدولية (الإنتربول).. إلخ. ويعلم الجميع أن إسرائيل ومعها الولايات المتحدة الأميركية، لم تدّخر جهداً، لإفشال عمليات التصويت على قرارات تناصر القضية، بل إن انسحاب أميركا وإسرائيل من اليونيسكو خير دليل على أن وعي المجتمعات العالمية يزداد يوماً بعد آخر بحقائق الصراع.
نعم، إن هذا الوعي لم يبلغ حد إرغام الحكومات على تغيير سياساتها لكن هذا اليوم آت لا محالة، فحبل العزلة يلتف أكثر فأكثر حول رقبة إسرائيل، التي تتكفل سياساتها بأن تجعل أقرب حلفائها خجلين من أن يواصلوا الوقوف إلى جانبها. الدنيا إذن بخير إلاّ للمستعجلين الذين يعتقدون بإمكانية تحرير البلاد، اليوم وليس غداً والمهم أن يؤدي الفلسطيني واجبه في الوقت وبالشكل المناسب.