رغم الاحتفال الهزيل، الذي يليق بالضيف والمضيف، وبجوهر الاحتفالية التي قاطعتها معظم السفارات المحترمة، والرد الفلسطيني والعربي والدولي الغاضب على القرار والإجراء الأميركي بحق القدس، إلاّ أن الإدارة المستهترة في البيت الأبيض، مصممة على حشد إمكانياتها لحمل دول أخرى على نقل سفاراتها إلى القدس المحتلة. الإدارة الأميركية التي يقف على رأسها دونالد ترامب لا تكتفي بأن تطابق سياساتها مع سياسات الكيان الصهيوني الاحتلالي المجرم، ولكنها تزايد عليه وتتقدم عليه في الدفاع عن مصالح إسرائيل.
احتفال بحجم ومستوى إيفانكا ترامب، لا يمكن أن يحظى بالاحترام أو يفرض وقائع تاريخية، مخالفة لكل القوانين والأعراف والقرارات الدولية. الغضب الفلسطيني لم يتوقف على ما وقع في الرابع عشر من أيار الجاري، رغم أنه كان مخضباً بدم عشرات الشهداء، وآلاف الجرحى. الشعب كله موحّد في الميادين حيث يوجد فلسطيني، لا يخدشه. خلاف من هنا أو هناك فرغم استمرار وتعمّق الانقسام إلاّ أن الكل موحّد في مواجهة الحلف الأميركي الإسرائيلي. ربما لم تتوقع الولايات المتحدة وإسرائيل، أن يشمل الغضب والرفض معظم الساحات العربية والإقليمية والدولية، بما في ذلك الولايات المتحدة نفسها. يشكو نتنياهو من أن علاقات إسرائيل ببعض الدول العربية التي غازلها، وأشار في تصريحات سابقة إلى رضاه عن مجرياتها، فها هو خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، الذي أطلق على القمة العربية قمة القدس، هو بنفسه يدعو إلى اجتماع عربي لمناقشة سبل الرد على الإجراء الأميركي.
القرارات التي صدرت عن الاجتماع الوزاري العربي في القاهرة وعن القمة الإسلامية في تركيا، تنطوي على أهمية بالغة، لا من حيث تأكيدها النظري على رفض وإدانة الموقف الأميركي، وإنما لأن ثمة آليات تحرك سياسي دبلوماسي، يستحق مندوب الكويت شرف إدارته للأزمة على مستوى مجلس الأمن الدولي.
بعد تلك الاجتماعات، اتسعت دائرة الرفض الشعبي السلمي للقرارات الأميركية، حيث انطلقت مسيرات في عواصم دولية كثيرة، وكأن الجريمة وقعت اليوم.. هذا فضلاً عن الإجراءات المتقدمة التي اتخذتها بعض الدول، مثل: تركيا وجنوب أفريقيا، وبلجيكا وإيرلندا ولوكسمبورغ، التي إما سحبت سفراءها من إسرائيل أو استدعت سفراء إسرائيل، للتعبير عن رفضها وغضبها.
نعلم أنه لا الدول العربية، ولا الصديقة، قادرة أو مستعدة لاتخاذ خطوات حقيقية لمعاقبة الولايات المتحدة أو إسرائيل، لكن ينبغي أن تكون هذه الدول قادرة ومستعدة لمعاقبة أي دولة تقرر نقل سفارتها إلى القدس، كما فعلت غواتيمالا وتفعل الباراغوي. الولايات المتحدة لا تزال في موقع دولي، يمكنها من معاقبة الآخرين، وامتصاص أي إجراءات ضدها، لكن إمعانها في تحدي منظومة الأمم المتحدة أو القانون الدولي، وتجاهلها لمصالح الآخرين، بما في ذلك شركاؤها التاريخيون، لا يمكن أن يمر دون ثمن.
الولايات المتحدة وضعت نفسها إلى جانب إسرائيل التي تعاني من عزلة دولية متزايدة، سيأتي الوقت ليؤكد مدى أهميتها. لقد قاوم النظام العنصري في جنوب أفريقيا وبدعم من الولايات المتحدة وشركائها، عقوداً طويلة، لكنه سقط في النهاية، وهو المآل الذي تذهب إليه إسرائيل التي تغرق في وحل العنصرية وممارسة إرهاب الدولة.
العالم يتحرك كله تحت وقع أقدام الجماهير السلمية التي خرجت وتخرج في كل مكان انتصاراً للحق الفلسطيني والعدالة الدولية، لكن مثل هذا التحرك كان يمكن ألاّ يأتي بثمار مضاعفة لو أن الوضع الفلسطيني على غير الحال، الذي هي عليه من الانقسام.
في هذه المعركة التي لها بداية ولها نهاية ورغم الوحدة الميدانية ووحدة الموقف، إلاّ أن آثار الانقسام، كانت بادية بوضوح على حجم المشاركة الشعبية، التي كان يمكن أن تصل أو تتجاوز المليونية لو أن الكل أخلص للتعامل مع الفكرة والحدث.
من لا يريد أن يصدق ذلك، لأنه لا يرى بأم عينه الميدان، فإننا نحيله إلى شبكات التواصل الاجتماعي، التي تظهر فيها آراء مخالفة وبعضها شامتة، وبعضها الآخر ينطوي على لغة اتهامية. لعل السؤال عما إذا كان الإنجاز يستحق هذا الثمن، يعبر عن هذه الحالة السلبية وكأن من ذهبوا إلى الحدود، أو من خرجوا إلى الميادين ومواقع الاشتباك أرادوا تحقيق وعد الآخرة، وطالما لم يحققوا ذلك فإن الثمن يذهب هباءً. الحراك الشعبي مستمر حتى الخامس من حزيران، وهو مستمر على كل حال ومفتوح على الزمن، طالما يستمر التحالف الأميركي الإسرائيلي في مصادرة الحقوق الفلسطينية، لكننا نأمل من هذا الحراك أن يؤدي إلى رفع الحصار عن قطاع غزة، وتوفير فرصة أخرى لتحقيق المصالحة، وأن يشكل وقوداً للمعركة السياسية والدبلوماسية في الأمم المتحدة التي كان باكورتها قرار المجلس العالمي لحقوق الإنسان.
ما يدعو لذلك، هو ما يظهر من مؤشرات عملية على وجود تفاهمات عن طريق طرف ثالث، لوقف مسيرات العودة، مرحلياً عند حدود التظاهر من بعيد، وإقصاء فكرة اقتحام الحدود مقابل تسهيلات تؤدي إلى تخفيف وطأة الحصار وليس إلى إنهائه.
دولياً ثمة تجاوب مع هذه الإمكانية، حيث بدأ الحديث يدور عن ملايين الدولارات، لإنقاذ الوضع الصحي المتردي في القطاع، ولكن إن صدقت هذه المؤشرات، فإن على حركة "حماس" أن تظهر مصداقية إزاء احترام الشركاء الذين أبدعوا الفكرة، ودعموها بالأفعال. من حق الناس في قطاع غزة، أن يقفوا على حقائق الأمور وأن يكونوا شركاء في القرار، وثمة ضرورة للتذكير بأن الحملة الشعبية كلها لم يكن هدفها فقط كسر أو تخفيف الحصار، فالأهم هو الاستثمار الوطني، حتى نتجنب توفير الفرصة لتحقيق ما أرادته إسرائيل بعزل قطاع غزة وإقامة الدولة عليه.
المصدر : جريدة الأيام