حرب باردة تدور رحاها على المستوى الدولي بين دولة فلسطين تحت الاحتلال والدولة الاسرائيلية. هي حرب ربما اكثر صعوبة وجدوى من الحروب التقليدية المسلحة، رغم ما في الاخيرة من ضحايا ودمار وخسائر باهظة.
هذا ما ينبغي ان يدركه الفلسطينيون في اطار فهم وتحديد اولويات اشكال النضال دون ان يتخلوا عن اي شكل منها خصوصا وان مواثيق الامم المتحدة تجيز للشعب المحتل ان يستخدم كل اشكال النضال للتخلص من الاحتلال.
لا اقصد من ذلك، ان على الفلسطينيين ان يدفنوا تحت التراب اسلحتهم وقدراتهم القتالية، بمناسبة الحديث عن المصالحة وشروطها، فالمقاومة الموجودة في ظروف قطاع غزة المعروفة والمختلفة عنها في الضفة الغربية هي ذخر لا ينبغي التفريط به بقدر ما ان المطلوب التفاهم بشأن فعاليته.
في كل الاحوال، فإن المصالحة اذا تمت على اسس مقبولة للجميع، فإن قرار المقاومة كما قرار المساومة والكفاح الشعبي، سيكون بيد قيادة وطنية وبشروط تمنع استخدامها بل تحرم استخدامها في العلاقات الداخلية الفلسطينية.
لا بد من الاعتراف بأن النضال السياسي والقانوني والدبلوماسي حقق في السنوات الاخيرة انجازات مهمة، تندرج في سياق عملية التراكم المطلوبة لعزل اسرائيل دوليا ومحاكمتها واخضاعها للمحاسبة، لا يجوز بأي حال الا للجهلة، التقليل من الانجازات التي تحققت سواء بالاعتراف بدولة فلسطين عضوا مراقبا، ورفع العلم الفلسطيني بين اعلام الامم او ما تحقق في اليونسكو، ومنظمة حقوق الانسان ومنظمة الشرطة الدولية «الانتربول»، فضلا عن قرار مجلس الامن الدولي رقم ٢٣٣٤، الخاص بالاستيطان وعلى مستوى النضال الشعبي السلمي، لا يمكن تجاهل الانتصار الذي تحقق في معركة المسجد الاقصى، والتي كانت معركة وطنية بامتياز.
فليتصور الفلسطينيون حجم ونوع الانجازات التي كان يمكن تحقيقها وتلك التي يمكن تحقيقها في حال كانوا موحدين على قلب رجل واحد، يديرون خلافاتهم وتناقضاتهم في اطار الانضباط العام للقرار الوطني من خلال المؤسسة الوطنية الواحدة والموحدة.
في كل مرة يحقق فيها الفلسطينيون انجازا تتوسع دائرة الدول والمجتمعات التي تتفهم منطق العدل والحق، وتزداد نسبة المصوتين على القرارات رغم كل ما تقوم به اسرائيل والولايات المتحدة من مقاومة وتمارسه من ضغوط على الدول، اكثر من مرة هددت الولايات المتحدة بالانسحاب او الامتناع عن دفع مساهمتها في موازنات بعض المؤسسات الدولية لكنها فشلت في ان تحمي اسرائيل من العدالة الدولية.
في هذه الفترة تبدو اسرائيل مرتبكة الى حد كبير، فهي تراقب بغضب سير الحوارات الفلسطينية من اجل تحقيق المصالحة، والاطاحة بالانجاز الاستراتيجي الذي حققته اسرائيل من خلال الانقسام الفلسطيني الذي دام لاكثر من عشر سنوات ووفر لها ذخيرة قوية استخدمتها للتغطية على مشاريعها ومخططاتها الاستيطانية والتهويدية، وقدمت لها الذرائع لتبرير انقلابها على عملية السلام.
في اوقات سابقة، كانت اسرائيل جاهزة لتعطيل المصالحة في بداياتها للاحتفاظ بواقع الانقسام، كما فعلت في تموز ٢٠١٤، حين خاضت حرباً ضد قطاع غزة، كان من بين اهدافها، تعطيل اتفاق الشاطئ الذي انتهى بحل حكومة حماس وتشكيل حكومة الوفاق الوطني.
في هذه المرة الامور ستكون اكثر صعوبة، ذلك ان اسرائيل وحدها تغرد خارج سرب المجتمع الدولي بما في ذلك حليفتها الولايات المتحدة واوروبا والامم المتحدة، حيث يشكل الاجماع الدولي حول ضرورة انجاز المصالحة كابحا لنوايا اسرائيل العدوانية.
لولا هذا الاجماع الدولي والاقليمي على دعم المصالحة، لكان الظرف مناسبا لاسرائيل كي تشن عدوانا كبيرا اخر على قطاع غزة بدعوى محاربة الارهاب، خاصة وان حبل التحقيق يلتف حول رقبة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، لقد تعودت اسرائيل على التهرب من ازماتها الداخلية عبر تصدير العدوان وخلط الاوراق، واحيانا عبر الذهاب الى انتخابات مبكرة لكن لا هذه ولا تلك تتوفر لها ذرائع كافية، ما سيفاقم من ازمة رئيس الحكومة وائتلافه، اليميني المتطرف.
الآن تستعد اسرائيل لخوض معارك على جبهة الوضع الدولي ومؤسسات الامم المتحدة، تساندها في ذلك، الادارة الاميركية احيانا وفي احيان اخرى الكونغرس، تحت تأثير اللوبي الصهيوني الاميركي.
تحضر اسرائيل نفسها لخوض معركة ضد اليونسكو، ولكن على الارض اذ تواصل اقتحام المسجد الاقصى بمعدلات يومية، وبأعداد اكبر وبحماية الشرطة، فضلا عن متابعة الحفريات تحت وحول المسجد الاقصى في محاولة لتغيير الواقع القائم بعكس قرارات اليونسكو، الشيء ذاته بوسائل اخرى لتغيير واقع المسجد الابراهيمي في الخليل، فبعد تقسيمه مكانيا وزمانيا تسعى لاخراجه من دائرة الاوقاف الفلسطينية من خلال تشكيل بلدية للمستوطنين التي اقامتها وسط المدينة، منظمة حقوق الانسان العالمية هي في المهداف الاسرائيلي والاميركي، اذ يسعى الطرفان لانهاء صلاحياتها او وجودها من الاساس، اذ تعتبرانها منظمة منحازة لصالح الفلسطينيين. الاونروا هي هدف ثالث لاسرائيل تسعى لاحالة ملفها وصلاحياتها الى الهيئة العليا لشؤون اللاجئين، عبر اتهامها بالارهاب، وتقليص صلاحياتها.
اما معركة المقاطعة المعروفة بالـ B.D.S، فهي مفتوحة على التوسع خصوصا بعد أن نجحت في اختراق المجتمع والمؤسسات الاميركية، وبعد أن جهزت الامم المتحدة قائمة سوداء تشمل مئة وخمسين مؤسسة وشركة اسرائيلية ودولية تعمل لصالح أو مع الاستيطان.
في الخلاصة فإن على الفلسطينيين ان ينتبهوا لأهمية هذه الاشكال النضالية وهم يحاولون اعادة صياغة أوضاعهم الداخلية وتحديد استراتيجياتهم.