طلال عوكل
بعد أن احترق فيلم المجلس الوطني واللجنة التنفيذية ينطلق كالصاروخ سؤال ماذا بعد، النخب ومؤسسات الدراسات الفلسطينية على تواضعها والعديد من الفصائل بدأت تناقش هذا الأمر وتبحث عن إجابات منطقية بعيدة عن الشعاراتية.
رغم حالة الضياع التي يعاني منها الفكر السياسي الفلسطيني، غير أن الطبيعة لا تقبل الفراغ، والصراع المحتدم الذي تغذيه السياسات والأطماع الإسرائيلية لم يعد يقبل الجمود، ولا هو أصلاً كان يقبل التردد.
البعض يضع عنواناً لسؤال ماذا بعد، من خلال فحص إمكانية تفعيل المنظمة ابتداءً بعقد مجلس وطني جديد يتم التحضير له جيداً ووفق الآليات والأعراف الفلسطينية المعروفة، غير أن هذا العنوان لا يصلح، لمعالجة ملف الأزمة الشاملة التي تعاني منها الحركة الوطنية ومؤسسات التمثيل والقرار الفلسطيني.
الأزمة شاملة وعميقة ومن مستوى استراتيجي، ما يدعو إلى عملية تغيير وليس عملية اصلاح وترقيع.
يفرض السؤال نفسه من واقع الاعتراف، الجماعي بفشل المسيرة السابقة، التي تمتد لنحو عشرين عاماً، فشل يطال الاستراتيجيات والبرامج والخيارات كلها بالمسالم منها والعنيف، المفاوض والمقاوم، ويتجلى ذلك في انهيار المشروع الوطني الفلسطيني، ونجاح إسرائيل في تبديد ومصادرة معظم الحقوق التي ينبني عليها ويستهدفها المشروع الوطني، أين القدس وهي من أهم مكونات المشروع، أين هي قضية حق عودة اللاجئين، أين هي الدولة الفلسطينية، وأين بقية الحقوق وماذا يتبقى من المشروع الوطني.
ثمة حالة من التوهان فلا إمكانية لتحقيق الدولة ذات السيادة على الأراضي المحتلة العام 1967، ومن المستحيل أن تقبل إسرائيل بدولة ديمقراطية للجميع، أو ثنائية القومية.
إذا المشروع الوطني يحتاج إلى إعادة صياغة وإعادة تعريف وعبر حوار وطني جامع حتى لا يكون الشعب مشتتاً بين مشاريع.
يبدأ البحث في الاستراتيجية بالإجابة عن سؤال ما هو الهدف المركزي أو الحلقة المركزية التي تفرض الحاجة لمعالجتها الآن وفي اللحظة الراهنة، هل هي موضوع الدولة، التوجه إلى الأمم المتحدة، أم إلى الجنائية الدولية؟ هل هي إعادة النظر في وظيفة السلطة وصلاحياتها، وهل هي اصلاح أو تغيير في منظمة التحرير أم انه إنهاء الانقسام الفلسطيني، الذي يؤدي إنهاؤه، إلى توفر شرط وطني لكي تأتي الاستراتيجية ملبية لكل قوى الشعب وتطلعاته لم نعد نستغرب أن يتحدث الجميع بحماسة حول الالتزام بالمصالح بينما تأتي الممارسات الملموسة على عكس ذلك، ولكن السؤال الجارح هو لماذا تقبل رغماً عنها السلطة ما تقوم به إسرائيل من مصادرة للحقوق ولا تقدم تنازلات من أجل المصالحة، ولماذا تبدي حماس استعدادها للدخول في صفقة مع الاحتلال حول الهدنة ولا تقدم تنازلاً لصالح الطرف الآخر؟
لا بد إذاً من إعادة استظهار وبلورة معايير الوطنية الفلسطينية حتى لا يظل الجميع يتشدق بها، وهو في الواقع يخرج عنها ويعمل ضدها.
لقد حان الوقت لكي تعترف القيادات السياسية أيضاً بعجزها عن تلبية استحقاقات الوطنية الفلسطينية، وأن تتوافق على جماعة من الحكماء، ومن بينهم بالتأكيد حكماء من الفصائل تعمل كخلية أزمة لتجيب عن الأسئلة الاستراتيجية، وتقدم للقيادات السياسية خلاصة أفكارها ومقترحاتها.
بعد كل هذا الوقت المليء بالفشل، الذي لا تعوضه بعض الإنجازات، التي لا ينبغي التقليل من أهميتها، نطرح سؤال التمثيل الفلسطيني بما يفيض عن جوهرها وهو الكينونة التي تتمثل في منظمة التحرير وأن نبحث في هُويّة هذه الكينونة، حتى نجدد ونعمق التمثيل الموحد والحصري والشامل لمنظمة التحرير الفلسطينية.
إذا توافق الفلسطينيون على الاستراتيجية والخيارات والبرنامج السياسي، نعود للبحث المعمق في الأدوات والروافع التي، لا بد من تثوير مضامينها، ونشاطاتها. والسؤال لماذا تبقى قيادة كل الشعب الفلسطيني، أي قيادة منظمة التحرير الفلسطينية موجودة بكل إمكانياتها تحت رحمة الاحتلال؟ هل يمكن أن تتوفر لدى هذه القيادة الإرادة المستقلة لاتخاذ القرارات، والخيارات، تحت سمع وبصر، قوات الاحتلال وأجهزته الأمنية وأدوات بطشه.
أليست منظمة التحرير، هي قيادة كل الشعب الفلسطيني التي ينبغي أن تظل قائمة بمسؤولياتها حتى لو تم تحقيق هدف الدولة الفلسطينية؟ والسؤال يمتد ليشمل الفصائل، وهي فصائل وطنية كل منها يتحمل مسؤوليات بحدود إمكانياته، عن كل الشعب الفلسطيني، فلماذا تبقى كل هذه القيادات داخل الوطن وتحت سمع وبصر المحتل الإسرائيلي؟
الفصائل لم تعد هي ذاتها التي كانت حتى لو أنها واصلت الالتزام ببرامجها الكفاحية، فلا فتح ظلت فتح التي نعرفها، ولا الشعبية أو الديمقراطية، ولا أي فصيل آخر بقي على حاله. لقد عمّت الرشوة الشاملة التي أغدقها المجتمع الدولي بفعل أوسلو، على كل الفصائل وعلى غير الفصائل حتى أعطت تأثيراتها السلبية على التزاماتها الثورية.
إذا حاولنا أن نمد الخيط على آخره، فالأمر ينسحب على أذرع منظمة التحرير أي المنظمات والاتحادات الشعبية التي شاخت واهترأت، وتحولت إلى مومياءات فقدت أذرعها وقدرتها على العمل.
وفي السياق ذاته لا بد من إعادة تجديد حركة فتح كحركة قائدة، وفض الاشتباك بينها وبين السلطة، فلكل مسؤولياته، وعليه أن يتحملها.
باختصار علينا أن نستعيد قدرتنا على التفكير بعقل ما قبل توقيع اتفاقيات أوسلو، وإلاّ فإنه لا حدود للانهيار.