طلال عوكل
خطاب الرئيس محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الأربعاء الماضي، الثلاثين من أيلول، لم يكن عادياً، ولا هو مكرر، كما يدعي البعض، ولكنه لم يكن خطاباً حاسماً باتجاه القطع مع المرحلة السابقة، نحو مرحلة جديدة واستراتيجية فلسطينية جديدة.
أراد الرئيس أن يضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته إزاء عملية سياسية مستمرة منذ أكثر من عشرين عاماً، أنتجت أوضاعاً لا تمكن الفلسطينيين من إحراز حقوقهم أياً من حقوقهم الوطنية، ولا تحقق الحد الأدنى من سلام تحدثوا عنه طويلاً.
الرسالة الأساسية في الخطاب، تنطوي على بعد تقييمي للمرحلة السابقة، مع استنتاجات غير قطعية، وعلى تحذير للمجتمع الدولي من أن الفلسطينيين لا يمكنهم الاستمرار في الالتزام بشروط اتفاقية نسفتها إسرائيل هي اتفاقية أوسلو.
هذا يعني أن الرئيس يعطي مهلة من الوقت لمن أراد أن يتقدم بمبادرات دولية فاعلة، تصحح المسار الذي اتخذته عملية السلام، وإلاّ فإن الفلسطينيين سيتصرفون على نحو مختلف، يؤكد ما أعلنه الرئيس من أن القضية الفلسطينية هي عنوان ومحور وأساس الحرب والسلام في المنطقة.
ومع أننا لا نعتقد بأن هناك من ينتظر وبإمكانه أن يصحح المسار الأعوج لعملية السلام، فإن الرسالة ستكون لها آثار إيجابية على مستوى تحريك مواقف بعض الدول والمجتمعات الفاعلة خصوصاً في أوروبا نحو اتخاذ مواقف إيجابية لصالح القضية الفلسطينية، وربما الاعتراف بالدولة الفلسطينية فضلاً عن تعميق عملية الوعي الدولي لحقائق الصراع في هذه المنطقة.
ربما كان على الرئيس أن يعلن موقفاً أكثر جرأة وشجاعة إزاء السياسة الأميركية التي تتحمل مسؤولية أساسية وكبيرة تجاه فشل خيار المفاوضات ومسار عملية السلام، لأنها وهي القادرة على التأثير في السياسة الإسرائيلية، آثرت على مدار كل الوقت تبني ودعم وتغطية كل ما تقوم به إسرائيل.
خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما جاء قبل خطاب الرئيس عباس، وقد كان حرياً بالرئيس الفلسطيني أن يرد بقوة على تجاهل الرئيس الأميركي للقضية الفلسطينية في خطابه، وانحرافه نحو أولويات في السياسة الأميركية، تتنكر لحقائق الصراع الأساسي في المنطقة.
أميركا أعلنت عبر رئيسها عن فشلها الكامل في تحقيق السلام وإن كان تهرب من إعلان هذا الفشل، لكنه بانسحابه عن الاهتمام بجوهر الصراع في المنطقة، إنما يعطي إسرائيل الأفضلية في ظل ظروف عربية متردية، تعاني من صراعات دموية وتنشغل بعض أنظمتها السياسية في أولوية الحفاظ على وجودها واستقرارها.
ثمة توافق كامل بين السياسة الأميركية والإسرائيلية فلقد تجاهل نتنياهو، كما فعل تقريباً اوباما، حقائق الصراع واكتفى بإعلان مختصر عن أنه مستعد للقاء الرئيس عباس ثم استغرق في الحديث عن الخطر الإيراني، الذي يشكل بالنسبة لإسرائيل أداة ابتزاز للمجتمع الدولي.
المسؤولة عن السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي فيدريكا موغريني التقطت رسالة الرئيس عباس، واعتبرتها رسالة تحذيرية قوية، وأعلنت عن أن ثمة تحركات نحو تفعيل المفاوضات، وعملية السلام.
قد يكون الوقت مناسباً لأوروبا الموحدة لكي تتقدم بمبادرات، تتجاوز الدور الأميركي، الذي يتراجع إلى الخلف، خاصة وأنه عدا الانسحاب الأميركي، فإنه لم يتبق سوى عام على الانتخابات الرئاسية الأميركية التي يتنافس فيها الحزبان الديمقراطي والجمهوري على كسب الصوت اليهودي، واسترضاء إسرائيل.
ومع أننا نشك كثيراً في أن تتحلى أوروبا الموحدة بكل الشجاعة والجرأة اللازمة، لتفعيل قدراتها في اتجاه التأثير الفعال على السياسة الإسرائيلية، حتى لو حصلت على المزيد من الوقت، فإن أي تحرك جدي تقوم به القارة العجوز المتصابية قد يترك للفلسطينيين بعض الآثار الإيجابية، بما في ذلك منحهم بعض الوقت لإعادة ترتيب أوضاعهم الذاتية، استعدادا لمرحلة قريبة قادمة تتجه فيها الأوضاع نحو صراع شامل ومفتوح.
الفلسطينيون اليوم غير جاهزين بما هم عليه من حال، لمقابلة وخوض التحدي مع السياسات الإسرائيلية، ذلك أن خوض هذه المجابهة يتطلب تغييرات جذرية على مستوى طبيعة المؤسسة ووظائفها، وطبيعة وآليات اتخاذ القرار وقد يتطلب ذلك تغييرات جذرية وشاملة.
المرحلة المقبلة، بعد الوقت الوقت المتاح لتحرك أوروبي، تستدعي حواراً وطنياً فلسطينياً جامعاً وشاملاً، لوضع استراتيجيات جديدة وخيارات جديدة، وتستدعي إعادة بناء مؤسسات القرار السياسي الفلسطيني على نحو يسمح بتعبئة كل طاقات الشعب الفلسطيني لخوض هذه المواجهة.
مما جرى ويجري بعد الخطابات في الأمم المتحدة يتضح أن اسرائيل تبادر إلى التصعيد عبر المستوطنين والجيش والأجهزة الأمنية، وتستنفر المزيد من قدراتها العدوانية كترجمة لخطاب نتنياهو، فيما لا يزال الطرف الفلسطيني يخوض مجابهات شعبية محدودة، تتخللها رسائل عنفية، قد تتسع وتتكرر، على غرار عمليتي نابلس والقدس دون أن يكون الفلسطينيون قد أخذوا فرصتهم في ترتيب أوضاعهم، والاتفاق على أشكال خوض الصراع.