بمعزل عن المواقف المرحبة، والمنتقدة لعملية الباص التي وقعت في القدس يوم الاثنين الماضي، وبغض النظر عن طبيعة الردود التي يعمد الاحتلال لاتخاذها، فإن القراءة الموضوعية لا تشير إلى أن الانتفاضة دخلت مرحلة جديدة كما يعتقد البعض.
البعض يتساءل عما إذا كانت عملية تفجير الباص تشكل نقلة نوعية نحو اعتماد أسلوب العمليات العسكرية الاستشهادية أو غير الاستشهادية، الأمر الذي سينجم عنه تحول جذري في العلاقة بين الاحتلال والمكونات السياسية الفلسطينية فصائل وسلطات.
قبل وقوع العملية، بل في النصف الأول من يوم الاثنين الذي وقعت فيه العملية، كان العديد من الصحافيين ومراسلي وكالات الأنباء يتساءلون عن مصير الانتفاضة وما إذا كانت إسرائيل قد نجحت في وأدها، أو تحقيق التهدئة.
تستمد أسئلة الصحافيين مبرراتها، من واقع أن أياماً عديدة مرت دون أن تشهد المواجهات عمليات طعن أو دهس، ضد مستوطنين أو جنود على الرغم من أن الإجراءات الوحشية الإسرائيلية استمرت دون توقف.
تعود الإجابة عن أسئلة المهتمين بأمر الانتفاضة إلى معرفة الأسباب الحقيقية لاندلاعها، وماهية العوامل الدافعة والمحفزة لاستمرار نشاطاتها، بالإضافة إلى معرفة السمات التي تتعلق بالفعل الانتفاضي.
بعد نحو سبعة أشهر على اندلاع الانتفاضة يتضح أن أسباب ودوافع اندلاعها لم تكن تكتيكية، وحتى لو أنها كانت كذلك بالنسبة لبعض الأطراف، فإن مرور كل هذا الوقت يجعلنا نعتقد بأنها أي الانتفاضة تجاوزت الأبعاد التكتيكية المحدودة الأهداف وفي طبيعة الفعل.
غير أن التوصل إلى مثل هذا الاستنتاج لا يعني بالمقابل أننا أمام انتفاضة طويلة الأمد، تحمل عبء التحرر الوطني، والأصح أن نعتبرها موجة انتفاضية طويلة بالمعنى النسبي.
استمرارية الانتفاضة أصبحت مضمونة إلى حد كبير، فهي لا تخضع لسيطرة فريق سياسي محدد، بالإضافة إلى أن الإجراءات القمعية والعنصرية الإسرائيلية التي تتخذ طابعأً جماعياً وقاسياً إلى حد بعيد، من شأنها دائماً أن تولد ردود فعل مناسبة من قبل النشطاء الفلسطينيين، خصوصاً وأن هؤلاء النشطاء ينتمون إلى جيل الشباب الذي يدفع أكثر من غيره ثمن الاحتلال وإجراءاته البائسة.
لقد فشلت إسرائيل في فرض الهدوء، رغم أنها تمادت في استخدام وتنويع وسائل القمع والإغراءات، الأمر الذي يدعو للاعتقاد بأن إسرائيل تخوض معركة شاملة، ضد الشعب الفلسطيني، ذلك أن الحذر الإسرائيلي عملياً يلحق إهانات حتى بحق العمال الفلسطينيين الذين يذهبون للعمل داخل إسرائيل.
إن نشر المزيد من الحواجز، وتعويق حركة المرور وتفتيش المارة، والإغارات الليلية على البيوت، واحتجاز جثامين الشهداء وغيرها من الإجراءات المجنونة، من شأنها أن تدفع الأوضاع دفعاً نحو التوتر، وتوسيع دائرة المجابهة.
أما من حيث السمات، فإن أحد أهم ما يميز الفعل الانتفاضي بأنه لا يسير على خط مستقيم، ويتبع خطاً متعرجاً بين الهبوط والصعود، ما يربك الاحتلال، ويفاجئه في مكامن غير متوقعة.
بعد عملية الباص في القدس، من المرجح أن تلجأ إسرائيل إلى إجراءات عقابية شديدة، ولذلك من المرجح أن يقابل الشبان هذه الإجراءات بمواجهات وعمليات نشطة، خصوصاً وأن عملية الباص تنتمي هي الأخرى إلى المبادرات والأعمال الفردية شأنها شأن عمليات الطعن والدهس، ولكن بوسائل أخرى.
في الواقع أدى تزامن وقوع عملية الباص في القدس مع إعلان إسرائيلي عن اكتشاف نفق استراتيجي للمقاومة شرق رفح يتجاوز الحدود بنحو مئة وخمسين متراً، ما أدى إلى نهوض أسئلة أخرى جديدة حول احتمال قيام إسرائيل بعدوان آخر كبير على قطاع غزة.
التساؤل مشفوع باعتقاد أن إسرائيل تشن عدواناً على قطاع غزة كل عامين، وها هي الذكرى الثانية للعدوان السابق تقترب، من حيث المبدأ لا يمكن استبعاد قيام إسرائيل بعدوانات جديدة على قطاع غزة، وهي حين تفعل ذلك لا تحتاج إلى ذرائع ومبررات، طالما لديها أهداف محددة، في هذه الفترة لا تتوفر لإسرائيل أهداف كبيرة تستحق أن تشن عدواناً آخر قد تنجح فيه المقاومة في أسر جنود إسرائيليين، وتؤثر سلباً على قدرة إسرائيل على الردع. إسرائيل هذه الأيام مشغولة بقضية الجولان التي عقدت فيها الحكومة اجتماعها الأسبوعي لأول مرة لتعلن من هناك أن الجولان جزء من أرض إسرائيل، لن تتخلى عنها إلى الأبد.
إعلان الحكومة لا يمكن أن يمر مرور الكرام على الرغم من الأوضاع الصعبة التي تعاني منها سورية، خصوصاً وأن المسألة تتعدى الموقف السوري إلى الأوضاع العربية والإقليمية، بل وطبيعة المفاوضات الجارية في جنيف بين المعارضة والنظام. الأرجح أن إسرائيل ستتذرع بهذه العملية لقطع الطريق أمام ما يقال عن لقاءات فلسطينية إسرائيلية حول صلاحيات السلطة في مناطق (أ)، وتقييد دور الجيش وهو ما ترفضه الأجهزة الأمنية الإسرائيلية. ما عدا ذلك فإن إسرائيل ستشن تحريضاً واسعاً على الفلسطينيين، فضلاً عن تشديد الإجراءات التي تنغص عليهم حياتهم، ما يؤدي إلى إشعال جمرات الانتفاضة.