ثمة ما يبرر استمرار التساؤلات المتشككة والحائرة بشأن مصير الانتفاضة سواء جاءت هذه التساؤلات من الجانب الفلسطيني أو من الجانب الإسرائيلي.
فبالرغم من مرور ما يقرب من ستة أشهر على اندلاعها ما يجعلها فعلياً تتجاوز الأهداف والتطلعات التكتيكية قصيرة المدى، إلاّ أن التساؤلات من الطرف الفلسطيني لها ما يوجبها.
لست ممن ينتقدون غياب الفصائل على نحو علني وطاغٍ عن النشاطات الانتفاضية، ولست أيضاً ممن ينتقدون غياب القيادة الوطنية الموحدة عن فعالياتها، ذلك أن مثل هذا الغياب او التغييب، ينطوي على مميزات حميدة لصالح الانتفاضة واستمرارها.
مثل هذا الغياب أو التغييب بالإضافة إلى غياب المشاركة الشعبية الواسعة والعارمة، هو مصدر التساؤلات من الجانب الفلسطيني، ويضيف اليها البعض، غياب الأهداف الواضحة والمحددة عن هذه الموجة الانتفاضية التي تواصل نشاطاتها بوتائر معقولة، رغم كل هذا الغياب.
لا شك أن هذا التغييب، ناجم عن وعي فصائلي لطبيعة المواجهة الجارية، ذلك أن ظهور أي دور علني وطاغٍ على النشاطات الانتفاضية، أو تبلور قيادة لها، كل ذلك سيشكل هدفاً محدداً لقوات الاحتلال ووسائله الاستخبارية، تركز عليه جهودها من أجل وأد الانتفاضة أو إلحاق الهزيمة بها، في حال نجحت قوات الاحتلال في الوصول إلى قيادتها.
الانتفاضة بما هي عليه من فعاليات، تعكس في الجوهر طبيعة المواجهة مع الاحتلال، وتتميز بطابعها الوطني العام الذي يتجاوز حالة الانقسام والخلافات السياسية بين الفصائل، وتنحي جانباً كل عوامل التنافس السلبي. كما أنها تقدم رسالة واضحة، تشير إلى الانتقال فعلياً وواقعياً إلى مربع الصراع المفتوح والمديد.
رسالة الانتفاضة وآليات فعلها ونشاطاتها، كأنها تقدم تقييماً لتجربة التعامل مع الاحتلال سواء من خلال برنامج المفاوضات السياسية، أو من خلال ما يعرف ببرنامج المقاومة.
ينعكس ذلك في غياب الهدف المحدد بإقامة الدولة الفلسطينية، وهو هدف تجاوزته وقائع الصراع وفق المفهوم الذي يقدمه المجتمع الدولي وتتبناه القيادات الفلسطينية بل المجموع الفلسطيني الوطني.
وتقدم النشاطات الانتفاضية بديلاً عن برنامجين ووسائل تحقيقهما، فلا تعتمد الكفاح المسلح، أو برنامج المقاومة أسلوباً ولا تعتمد برنامج التسوية السياسية كذلك، وإنما تشق طريقها نحو إعطاء مفهوم جديد عميق للمقاومة الشعبية السلمية، الأمر الذي جعلها تتجنب الإدانات الدولية، والعزل، وفي الوقت ذاته، يمكنها من فضح طبيعة الاحتلال بما أنه احتلال إرهابي، عنصري إحلالي، يرفض الاعتراف بالحدّ الأدنى من الحقوق الفلسطينية.
الانتفاضة إذا مستمرة، لأنها ايضاً خارج إطار السيطرة الفصائلية ولأن إسرائيل تتكفل كل لحظة بصب المزيد من الزيت على نارها المتقدة، وتستفز المزيد من الفئات الشعبية المتضررة من جرائم الاحتلال.
التساؤلات على الصعيد الإسرائيلي لها ما يبررها هي الأخرى فلقد اعتمدت الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة برنامجاً متدرجاً، وتصعيدياً في مواجهة انتفاضة تعترف الدوائر الإسرائيلية بأنها ذات طابع فردي.
هذا الطابع الفردي أولاً، يلحق هزيمة متواصلة بالوسائل والأدوات الاستخبارية الإسرائيلية، التي لا تستطيع الوصول إلى نوايا، النشطاء الذين يصحون صباحاً وقد قرروا القيام بعمل ما، بالإضافة إلى أنه يربك المخططات الإسرائيلية، التي لم تعد تعرف كيف لها أن تنجح في محاصرة الانتفاضة تمهيداً للقضاء عليها أو الإمساك بأنويتها الصلبة. إسرائيل هي الطرف الذي يتحمل المسؤولية عن دفع الأمور إلى مربع الصراع الواسع والمفتوح ذلك ان مفردات سلوكها المنهاجي، تشير إلى أنها تخوض معركة شاملة، ضد الأرض والإنسان الفلسطيني.
تواصل إسرائيل الاستيطان ومصادرة الأراضي وتواصل التهويد وتهديد المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية والمسيحية، وتواصل رفض المفاوضات، والعودة إلى عملية السلام، أو الالتزام بشروط اتفاقية أوسلو.
وإسرائيل تواصل سياسة القمع الواسع، والاقتحامات ونشر الحواجز المهينة، وتواصل الاعتقالات والاعدامات الميدانية، وهدم البيوت وتدمير الممتلكات، وها هي تناقش مشروع قانون يخول الجهات المختصة باعتماد الاعدام بحق نشطاء الانتفاضة.
فشل أساليب القمع والعقوبات الجماعية، والتنكيل جعل إسرائيل تضيف إلى ذلك، أسلوب الاغراءات الاقتصادية والتسهيلات عسى أن يؤدي ذلك إلى عزل الانتفاضة، وتأجيج المواجهة بين الفلسطينيين، لكنها فشلت فأضافت إلى ذلك، حرباً غير مقدسة ضد وسائل الإعلام الفلسطينية وغير الفلسطينية المتعاطفة.
إسرائيل استنفرت في معركتها ضد الانتفاضة كل ما تستطيع تجنيده من وسائل القمع، لكنها تحصد الفشل الذريع، ما يعني أن الانتفاضة، بما هي عليه مستمرة وفاعلة، وقد تجبر الاحتلال على الذهاب إلى خيارات صعبة وخطيرة، من شأنها أن تدفع إسرائيل إلى مزيد من العزلة الدولية، وانتظار ما تسفر عنه عملية مراكمة ملفات جرائم الحرب.