طلال عوكل
بعد أن توقف العدوان على قطاع غزة، وعاد كل طرف من الأطراف المنخرطة في هذا الصراع، أو التي توفرت لديها الدوافع والأهداف سواء المباشرة منها أو غير المباشرة، القريبة من الميدان والبعيدة عنه، نقول بعد أن عاد الجميع لحساباته العامة والخاصة، وإلى فحص النتائج والتداعيات، المنظورة وغير المنظورة، من الأرجح أن تندرج هذه الحرب العدوانية الإسرائيلية في إطار المغامرات العبثية.
أطراف عديدة، وجدت لها مصلحة، أو مصالح، في أن تنشأ مجابهة، بين إسرائيل والمقاومة في قطاع غزة، بغض النظر عن الطرف المسؤول عن إشعال الفتيل، ذلك أن المسؤولين عن إشعال الفتيل لا تبدل مواقف الأطراف المؤيدة لإسرائيل والمؤيدة للمقاومة وللفلسطينيين بصفة عامة.
باستثناء إسرائيل من ناحية و"حماس" من ناحية ثانية، فإن بقية الأطراف الإقليمية والدولية، صاحبة المصلحة والدافعية في تفجير الأوضاع، كانت ترغب في أن ترى إسرائيل وقد أصبحت أقل تطرفاً وأكثر استعداداً للعودة إلى مفاوضات التسوية، وأقل قدرة على تعطيلها فيما لو قررت الإدارة الأميركية دعوة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي للعودة إليها.
الأطراف ذاتها، كانت ترغب في أن ترى الطرف الفلسطيني، أيضاً، وهو أكثر مرونة، وأكثر استعداداً للعودة إلى طاولة المفاوضات، وأكثر قدرة على اتخاذ القرار مع وجود معارضة ضعيفة، يكون العدوان، قد أدى إلى تحجيمها، وإضعاف قدرتها على تعطيل التسوية.
إسرائيل لم تكن في هذا الوارد، وفيما هي تدرك ما الذي يريده المجتمع الدولي الفاعل (أميركا والاتحاد الأوروبي) فإنها أرادت تعطيل عملية العودة للمفاوضات، وإن حصل واضطرت للعودة تحت ضغط حليفها الأميركي فإنها ستفعل ذلك وفق شروطها، وبعد أن يبدي الطرف الفلسطيني استعداده للرضوخ.
أرادت إسرائيل أن تضعف طرفي المعادلة الفلسطينية، حيث قامت باجتياح الضفة الغربية، وتهشيم هيبة السلطة، إثر اختفاء المستوطنين الثلاثة، ثم قامت بشن عدوانها الهمجي على قطاع غزة، لإضعاف حماس والمقاومة. وأرادت إسرائيل أيضاً، أن تدمر المصالحة الفلسطينية وأن ترغم الفلسطينيين على حل حكومة الوفاق الوطني، تحت ضغط التداعيات التي ستنجم عن عدوانها ولإبقاء وتعميق الانقسام الفلسطيني الذي يخدم بقاؤه مصالحها الاستراتيجية.
وبعيداً عن المزايدة، أو الاستخدام التوظيفي للدم الفلسطيني، الذي لا يهون على أي فلسطيني، فقد أرادت حركة حماس، أن تخوض معركة بطولية حضرت لها جيداً، لتأكيد مدى التزامها ببرنامج المقاومة، ولتأكيد أولويتها الوطنية، ولتحسين قدرتها على مواجهة الأزمات والمشكلات الناجمة عن مرحلة المصالحة الفلسطينية، التي اعتقد البعض أن حماس جاءت إليها، من موقع الضعيف، المضطر للمسايرة، وتقديم التنازلات.
وعلى نحو غير مباشر، كانت المجابهة القوية في الميدان للعدوان الإسرائيلي ستخدم تعزيز سيطرة الحركة على الحكم بعد أن غادرت الحكومة. أطراف أخرى فلسطينية وإقليمية لم تكن بعيدة عن هذه الحسابات سواء لأسباب خاصة بها، أو لأسباب تتصل ببوصلة المجتمع الدولي.
وفق الحد الأدنى لكل هذه الحسابات، فإن العدوان على قطاع غزة وقبله على الضفة الغربية، يفترض أن يشكل المرحلة التحضيرية لانطلاق عملية التسوية من جديد، وفق معطيات جديدة، وانزياحات جديدة. والآن بالنظر لوقائع العدوان، وما بعده، وما أسفر ويمكن أن يسفر عنه من نتائج، يتضح أن هذا العدوان كان عبثياً بامتياز، ولم يخلف حتى الآن سوى، كم هائل من الشهداء والجرحى، ومن الدمار الذي أصاب سكان قطاع غزة، وكم كبير من الشواهد على ارتكاب إسرائيل المزيد من جرائم الحرب، فضلاً عن خلل في المربعين الإسرائيلي والفلسطيني.
في المربع الإسرائيلي، اندلعت الانتقادات، والتحقيقات، والاتهامات للمؤسسة العسكرية والسياسية والأمنية، ولكن اليمين المتطرف بما في ذلك الليكود حقق تقدماً في شعبيته وفق آخر استطلاعات للرأي.
لا يشمل هذا التقدم رئيس الحكومة، الذي هبطت شعبيته على نحو كبير، ولذلك فإنه راح يبحث عن كيفية استعادة شعبيته المفقودة ومكانته المتراجعة، سعياً وراء ذلك، ولتعزيز سياسة التطرف، والمزايدة على أقرانه المتطرفين، يسمح نتنياهو بمصادرة أربعة آلاف دونم من اراضي الضفة، وللجماعات اليهودية المتطرفة بأن تشدد وتجدول اعتداءاتها على المسجد الأقصى، ثم يتخذ قراراً بعدم عودة الوفد الإسرائيلي إلى مفاوضات القاهرة بناء على اتفاق وقف إطلاق النار.
رغم ما أصابها، إسرائيل بقيت تعتلي شجرة التطرف، وربما تبدأ باتخاذ إجراءات استفزازية، لاستدراج ردود فعل فلسطينية تفتح الطريق أمام عودة العدوان. لقد بدأت إسرائيل بخرق اتفاقية وقف النار، حيث تفتح القطع الحربية البحرية نيرانها على الصيادين في عرض البحر، وقامت باعتقال اثنين منهم.
في المربع الفلسطيني، اندلعت الحرب الكلامية وحرب التصريحات والاتهامات بين حركتي فتح وحماس، والمصالحة لا تزال معطلة، وتعطلت لأسباب أخرى عملية إعادة الإعمار، وتم تأجيل المؤتمر الدولي الذي كان من المفترض انعقاده في القاهرة بداية هذا الشهر.
لم يتغير الوضع في قطاع غزة، فالمعابر على حالها، والحصار على حاله، وعلى حالهم الناس، الذين يرفضون التدخلات الإنسانية فقط لتأمين الطعام وبعض الدواء، ومبالغ ضئيلة لتأمين خروجهم من المدارس، وأماكن الإيواء التي لجؤوا إليها. الناس في قطاع غزة، قلقون من إمكانية تعرضهم مرة أخرى لعدوان إسرائيلي آخر قريب، هو قلق لا تبرره التجربة الطويلة مع الاحتلال، وإنما يدل على قراءة فطرية وحدس عميق لمحصلة العدوان الأخير ونتائجه وأهدافه. في كل الأحوال فإن كان المجتمع الدولي متحمساً لإعادة تفعيل عملية التسوية، فلا سبيل سوى أن يتدخل هذا المجتمع بطريقة جراحية لتأمين الطريق أمام عودة الطرفين إلى المفاوضات وإلاّ فإنها وفق كل المعطيات، الفرصة الأخيرة، للبحث عن السلام، وما لم يتم استثمارها فالأوضاع ذاهبة نحو صراع مفتوح.