حسن البطل
هو الذي رأى نُذرها قبل أن يسمع بها ونسمع- بين مكتب القائد العام ومكتب وكالة «وفا» رأيت وجهه عابساً، مكفهراً، مربد القسمات. رأيتُ خطواته أسرع مما رأيتها من قبل.
غادياً رائحاً من مكتبه الى مكتب «وفا»، وخلفه يهرول المحرر الملقب «ابو الوفا» حاملاً قلمه.
كنّا في «فندق سلوى» بتونس كان التوانسة يسألوننا: قتلتم؟ هل قتلتم؟ كيف قتلتم بشير الجميل. كل فلسطيني في اي مكان هو «أنتم»؟
في مكتب «وفا» كان الجهاز للاتصال بأحوال لبنان والشتات الفدائي من الجزائر الى اليمن والسودان، هو اللاسلكي قبل ثورة التكنولوجيا وهو الذي كان في سفينة خروج ابو عمار.
في البحر، استوقفوا السفينة: البنادق مسموحة والجهاز ممنوع وفق اتفاقية الخروج .. ولكن، كلا قال القائد، ثمّ نعم قالوا بعد ساعات نصف نهار.
كان ذلك اليوم هو ١٤ أيلول، حيث مات أول رئيس لبناني كتائبي ومنتخب من البرلمان تحت انقاض «بيت الكتائب» في الأشرفية - شرقي بيروت (عرف لاحقاً أن القاتل غير فلسطيني!)
بين الاغتيال في ١٤ أيلول، والمجزرة في ١٦ و١٧ ايلول ٤٨ ساعة قبل، ومثلها بعد .. حيث استعارت وجوهنا اكفرار وجه عرفات.
لاحقاً، ستصل الأخبار الأولى. لاحقاً ستصل صور المذبحة. لاحقاً سنقرأ التفاصيل. لاحقاً ستبدأ رحلة عودة الفدائيين من منتجع سلوى الى ساحة لبنان كما من ساحات الشتات.
على مدى أيام، على مدى شهور، على مدى سنوات، والى ما حييت سأقرأ «ريبورتاجاً» تحت عنوان «أربع ساعات في شاتيلا» كتبه من الميدان الذي كتب من قبل، في زهوة العمل الفدائي «أسير عاشق» .. هو الصعلوك - الفيلسوف - الموسوعي جان جينيه.
كان جان بول سارتر وضع كتاباً بعنوان «القديس جينيه» وكان القديس قد عقب ساخراً: هذا الفيلسوف الوجودي يكرر مقولاته المعدودة:
كم مجزرة قبل النكبة؟ كم مجزرة بعد النكبة، لكن مجزرة صبرا وشاتيلا أقسى واكثر خسه وأشد إيلاماً، حتى من مجزرة مخيم «تل الزعتر». لا في عدد ضحاياها، بل في الغدر والتواطؤ وشناعة ووحشية القتل دون تمييز بين شاب وطفل، بين لاجئ فلسطيني ومقيم لبناني في المخيم.
عجز شارون عن دخول بيروت الغربية حرباً، وفي خروج قوافل الفدائيين، كان الرصاص يطرّز السماء والزغاريد تطرز الهواء .. لكن كانت النساء يبكين وتلبح ألسنتهن بهذا السؤال: «لمين تاركينا» كأنهن يتوقعن المذبحة في الأفق.
.. وكأن نذر المذبحة كانت على وجه عرفات قبل وقوعها بـ ٤٨ ساعة.
قبل ٤٨ ساعة من المجزرة، وخلال ٤٨ ساعة من المجزرة، وخلال أسابيع بعدها، تخربطت مواعيد الإفطار والغداء والعشاء، وخلت قاعة الطعام من معظم روادها، رغم صحن «الهريسة» التونسية فاتحة الشهية.
لم تكن الأخبار الأولى للمجزرة تعطيها أبعادها المهولة. يقولون: «ليلة ليلاء» وفي الليلة الليلاء من يوم ١٦ أيلول، أيقظني في ساعات الصباح المبكر واحد مكفهر الوجه: راحت زوجتك وبنتك. هل كان الخبر كاذباً، أم كان إبلاغي به «مزحة» من لا يدري هول المذبحة!
واحد من قوات الـ ١٧ سمع مني «المزحة» فشهر مسدسه و«خرطشه» وقال: من هو؟ سأقتله الآن. لم يكن يمزح، ولم أقل له من هو!
«ادفنوا قتلاكم وانهضوا» وبعد ثلاثة أسابيع، أقام القائد العام عرس زفاف لمناضلة فلسطينية من مخيم شاتيلا على مناضل عراقي، التي ستموت لاحقاً بضربة اسرائيلية في حمام الشط.
بعد أربعة أسابيع، جاءت التي كانت حبيبة في جامعة دمشق من باريس الى تونس. نظرت الى علاقة مفاتيح غرفتي في فندق سلوى وكانت ٢٤٢، ثم قالت التي اسمها سلوى ايضاً: أنا قدرك، والقرار ٢٤٢ قدر شعبك.
لكم كل ما كتب من كُتب عن المجزرة، لكم كل التحقيقات عنها وأسبابها ومجرياتها. لكم كل صور الضحايا. ولنا «اربع ساعات في شاتيلا» لجان جينيه. رأى الموت قيامة أخرى.
.. ولي، وجه عرفات المكفهر والمربد، وخطواته السريعة بين مكتبه ومكتب وكالة «وفا». هل كان يحدس؟ يتوقع؟ يعرف.
* * *
في خروج بيروت سألوا مقاتلا: ما اسمك؟ قال بشير الجميل. قالوا: كيف؟ قال: أنا جَمْيل كبير وهو جْمَيّل صغير!
قرأ شارون القوائم، ثم قال: رجال عرفات خَدّاعون، لم يعطوا أسماءهم.
كان لكل فدائي اسم حرب واسم حقيقي، ولم يبرزوا لا هوية هذا ولا هوية ذاك.