ذات مرة، في بيروت، أطللتُ على مكاتب مجلة «شؤون فلسطينية» وكان مدير تحريرها، إلياس خوري، منهمكاً في تحرير (تجويد، ترقين.. وحذف) مقالة أو دراسة ما.
«هؤلاء كتّاب كبار.. كيف تتدخل في ما يكتبون؟ سألت إلياس. قال: «أنظر» نظرت. عرفت ما أعرفه في تحرير مجلة «فلسطين الثورة». كل كتابة يلزمها محرّر. بما فيها كتاب «الاستشراق» للمفكر الفلسطيني العالمي إدوارد سعيد (ولو أنه بالغ في ذلك) ولعلّه كان كمال أبو ديب!
لمّا كنت محرّراً في «فلسطين الثورة» ـ بيروت، كان عليّ إعداد سلسلة مقالات مطبوعة، نشرت في الخليج، لإعادة نشرها في المجلة المركزية، عن «الصهيونية بداية ونهاية» لكاتبها أبو مازن.
بعد نشر حلقات، استدعاني مسؤول الإعلام ماجد أبو شرار، ونقل إليّ احتجاجاً على التدخل فيها، فعرضت عليه تحريري لآخر حلقة.. فوافقني على عملي.
أعرف، ما يجوز في مقالات الصحف ودراساتها، وفي الكتب الفكرية والتاريخية، لا يجوز في أدب الروايات على اختلافها .. إلاّ لغوياً.
لا أعرف، هل دفع إلياس روايته الأشهر «باب الشمس» إلى محرّر أم أن خبرته في التحرير والكتابة الصحافية أغنته عن ذلك، منذ روايته الأولى «الجبل الصغير» عن نشأته في حي الأشرفية البيروتي، إلى روايته الأخيرة «اسمي آدم».. روايته «باب الشمس» حازت جائزة فلسطين لعام 1998، والأخيرة مرشحة لجائزة «البوكر». أظن، أن اسمها الأصلي كان «أحمر» وعدّله إلياس، لأنه اسم رواية تركية لأورهان باموك.. وهذا حقه المعنوي ـ الأدبي.
إلياس، من بين قلة كتّاب يتعاطون بانتظام الرواية والمقالة الصحافية، شأنه شأن ماركيز في بداياته الصحافية. إنه ليس أي كاتب روايات، أو كاتب مقالات سياسية، كرّس معظم روايته عن الموضوع والحال والقضية الفلسطينية، وكذا قسما كبيرا من مقالاته.
سؤال: ماذا لو مرّ عليه مقال صحافي نقدي لمنظمة التحرير وردت فيه عبارة مثل: «بدأت الثورة الفلسطينية مع فتح زجاجة ويسكي في فندق بيروتي»، كما كتب رئيس تحرير صحيفة «الحال» أول صدورها، وكانت تطبع في مطابع «الأيام».
رئيس تحرير «الأيام» طلب حذفها، فرفض الكاتب وتظاهرت هيئة تحريرها احتجاجاً أمام مؤسسة «الأيام» وصارت تطبع في مكان آخر.
إلياس، أكثر الأدباء العرب اهتماماً وكتابة عن فلسطين، وطوّر الرواية الفلسطينية من مرحلة المنفى وجبرا إبراهيم جبرا، وغسان كنفاني، إلى زمن الاشتباك في الأدب الفلسطيني والإسرائيلي بعد أوسلو.
هو لم يرَ «صورة» مكان روايته «باب الشمس» وأنا صوّرت الموقع وأرسلته إليه، وروايته الأخيرة «اسمي آدم» حصيلة بحث متعمّق لتداخل «الأسرلة» مع «الفلسطنة»، ومع الواقع والتخييل الفانتازي الروائي.
كان إلياس قد قال عبارة ذات مغزى: «لا أحب فلسطين.. أحبّ الفلسطينيين» ربما لأنه يعرف الفلسطينيين و»المجتمع الفلسطيني» في لبنان، أو يرد على «محبة» الإسرائيليين لأرض فلسطين، وكراهيتهم للشعب الفلسطيني. لا توجد فلسطين بلا فلسطينيين، ولا فرنسا بلا فرنسيين، ولا لبنان بلا لبنانيين.. إلخ!
المهم، أن «الأيام» تعيد نشر مقالات إلياس في «القدس العربي» ولم تنشر مقالته في 14 الجاري، عن رأيه في سجال أثارته رواية «جريمة في رام الله».
الجريمة هي، في رأيه الصحيح منع الرواية لا الرواية ذاتها، وفي هذا يتفق الكثيرون معه، وكذا مع نقده للسلطة الأوسلوية، ربما على غرار نقد إدوارد سعيد لها وأشدّ منه. إدوارد مرجع وحجة عالمية في «الاستشراق» وكتابه من أهم 100 كتاب عالمي في القرن المنصرم، لكن نقده السياسي سطحي..
انطلاقاً من جناية منع «جريمة في رام الله» لا يوفّر الياس، ولا يوفّره معظم الفلسطينيين من نقد السلطة على الأصعدة السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية.. إلى «خدش الحياء العام».
يعرف إلياس أن م.ت.ف في لبنان ومجتمعها الثوري والعلماني، لم تكن تتدخل في «خدش الحياء العام»، لكن مجتمع لبنان الفلسطيني غيره المجتمع الفلسطيني في السلطة الفلسطينية، وهو صار يميل إلى المحافظة بفعل الانتفاضتين، خصوصاً وكذا بفعل المد الأصولي في المنطقة، ودول «الربيع العربي». يقول: «صارت فلسطين جزءاً من الخنوع للاحتلال عَبر تغطيته بمعركة وهمية عنوانها الأخلاق»، بعدما «كانت مهد الانتفاضات العربية»، ويشير إلى حجب لوائح الانتخابات البلدية لأسماء النساء.
إن لجنة الانتخابات المركزية الفلسطينية هي الأنزه عربياً، وتنشر أسماء النساء المرشحات رباعياً، لكن ليست اللجنة ولا السلطة مسؤولة عن نشر صحافي أسماء القوائم مع حجب أسماء النساء، لأنها دعايات انتخابية للقوائم مدفوعة الثمن في الصحف.
الشعب الفلسطيني «لا يطاق» إسرائيلياً، ويتحمل ما لا يطيق عربياً وعالمياً، والشتات الفلسطيني الذي فجّر الثورة صار لا مستقبل له، وصارت أرض فلسطين، مركز الثقل الثقافي والسياسي والاقتصادي والديمغرافي.. إلخ. وبدلاً من بيروت وتونس صارت رام الله هي السلطة وهي ملتقى الشعب، وصارت حيفا هي مركز فلسطيني إسرائيلي.
زار رسّام الكاريكاتير المصري البهجوري فلسطين قبل العام 2000. دهش وقال: تصورت فلسطين مخيمات بائسة، وليس كل هذا العمار والجمال. زارها أدباء عرب وعالميون في الأيام الأولى للانتفاضة الثانية، ومنهم محمد لطفي اليوسفي، الذي كتب: فهمت لماذا الحجارة سلاح الفلسطينيين «فلسطين كلها حجارة»؟
لو زار إلياس فلسطين لكتب رواية عن العجوز «هاجر» الفلسطينية، التي وصلت زمن النكبة حتى حلب، ثم عادت إلى طيرة حيفا بعد النكبة. إن ذراريها يشكلون العائلة الفلسطينية الوحيدة في ما كان بلدة فلسطينية بالكامل.
المهم، أن طيراوية ولدوا في الطيرة مثلي، أو في سورية مثل أحمد ومحمد، أو ولدوا في حيفا مثل ساهرة يلتقون في بيت هاجر أو أولاد هاجر يزورون رام الله.
أزور مسقط رأسي بحكم العمر وهُويّة السلطة، ومحمد أستاذ الجامعة بحكم جوازه الفرنسي، وساهرة بحكم جوازها الإسرائيلي .. وللجميع ملاحظاته عن قصور السلطة على غير صعيد، ولا يشمل ذلك دهشة البهجوري أو اكتشاف محمد لطفي اليوسفي، أو دهشة انتقاد إلياس لقوائم المرشحين للانتخابات البلدية، أو مفهومه لشكل المقاومة مربوطاً بالتنسيق الأمني. سلطة أوسلو غير انطوان لحد و»جيش لبنان الجنوبي.