من له فكرة أخرى عن الموت، له فكرة أخرى عن الحياة، للطقوس أن تنوس بين الفكرتين:
أميركي سأل يابانياً: هل تعتقد أن هذا الميت في هذا القبر سيتذوق الرز، أجابه: كما تعتقد أنت أن الميت في ذلك القبر سيشم الورد.
لا أعرف سبباً لفكرة سلفت، حيث كانت الأمهات الوالدات «يقمطن» أطفالهن وهم في المهد، وسن الرضاعة.
ربما كانت البنات الصغيرات، في انتقالهن الفجائي من الإمساك اللاهي بلعبة من جماد، إلى الإمساك المرتبك بوليد من حياة، يواصلن تقاليد طفولتهن العابرة، أو يبدو لهن الوليد هشاً، قابلا للتكسر .. إن سقط سهواً بين ذراعي الأم - الطفلة.
ربما كانت العادة الغابرة، إرثا من حياة الكهوف الباردة، أو «درعاً» يحمي الوليد، برهة من الوقت، يمنع عنه أنياب الوحوش، حتى تنجده أمه.
ربما للتسهيل على أمه، أن «تخطفه» من خطر .. وتفر به إلى النجاة.. أو لأن وفيات الأطفال الرضع كانت عالية، فيكون الطفل جاهزاً للنقل من المهد إلى اللحد.
اندثرت تقاليد «تقميط» الوليد، وبقيت تقاليد «تقميط» الشهيد، كأنه ينتقل لا إلى موت، بل إلى حياة أخرى. يزفونه كأنه عريس مضمّخ بدمه، طاهر بدمه.
كانت شرائط «التقميط» مزخرفة بدورها، ترسم أشكالا من الطيور، أو أشكالا من الورود .. سوى أن الأسود يحضر في تقميط الشهداء، ويغيب في تقميط الأطفال الرضع في المهد.
يحضر اللون الأسود، زيحا يطوق باقة من: الأخضر، الأبيض، الأحمر، ويحضر الأسود، أيضا، لونا من ألوان العلم الفلسطيني، ومن لون «كوفية القتال» الفلسطينية، ذات اللونين: الأبيض والأسود.
الميت في تابوت، والشهيد على محفة.. وفي «صلاة الميت» على الشهيد، يبدو الجثمان وكأنه مسكبة صغيرة من الورود، أو هكذا، يبدو «قماطه» بالعلم الفلسطيني .. هذا مشهد أفقي.
الشهيد في تشييعه الصاخب، ومن على الشرفات تبدو المحفات المرفوعة على الأكف، لا على الأكتاف، كأنها باقة ورود ألقيت على صفحة ماء البحر، تترنح المحفات شاقولياً، كما تترنح أفقيا، لأن الذين يحملون الشهيد على أكفهم يختلفون في طول قاماتهم، ولأنهم يطلقون صراخا بملء حناجرهم، ومن عمق رئاتهم. هكذا يبدو مشهد التشييع من رؤيا شاقولية.
من له فكرة أخرى عن الموت، له تقليد آخر عن تشييع الميت الشهيد إلى حياة الخلود. ومن له فكرة أخرى عن الحياة له فكرة أخرى عن الموت.
فكرة الناس عن الحرية متقاربة، لكن عندما تصطدم الحرية بفكرتي الحياة والموت المختلفتين في ثقافات الشعوب، يدعي أصحاب الفكرة الأخرى عن نظام الحكم، وعن الحقوق غير المتساوية في الحياة، أن لخصومهم «ثقافة موت» غير مفهومة، وأنهم يعيشون ليموتوا جزافاً.
كلا، تبقى الحياة عزيزة، ولكنها ليست أكثر معزة من فكرة الحياة عن الحرية، تبدأ الحياة بصرخة أولى، وليس صراخ المشيعين في توديع الشهيد، سوى تأكيد أن الشعب يصرخ: ألماً وغضباً وعهداً على الثأر، لأنه شعب حيّ.
للهتاف والصراخ في تشييع الشهيد «المقمط» بالألوان، المحمول على الأكف، أن يصد «الصدمة» الأولى عن أحباء الشهيد .. عن ذويه وأصدقائه، وأن يشد
من أزرهم.. لتبقى للجمهور فكرته الأخرى عن الموت، وفكرته الأخرى عن الحياة .. ودونهما قد يصعب عليه، على مناكبه وعلى روحه، أن يتحملا وطأة ثمن الحرية.
لذلك، فإن ميزانية الإرادات هي التي تعدل اختلال ميزان القوى، وفداحة ميزانية الموت: اليومي، الأسبوعي .. السنوي.
كان الفراعنة «يقمطون» موتاهم على مهل، وكان الذهب الخالد استعارة أخرى لخلود الميت، غير أن مراسيم تشييع الشهداء أبسط من ذلك، لكنها أعمق فلسفيا وفكريا.
في النوم وفي الموت، يأخذ الجسد / الجثمان اتجاهه الأفقي؛ وبينهما يأخذ اتجاهه العامودي.
الإنسان، ككتلة حية، هو الأكثر انتصابا بين المخلوقات. على قدمين يشكلان جزءاً بسيطاً من كتلة الجسم، ثم على محفة الموت، وعلى الأكف يأخذ شكله الأفقي من جديد، كأنه يعود إلى رسم قطبي الحياة والموت.
إسرائيل لن تهزم فكرة الفلسطيني عن حريته، لأنها لن تهزم فكرته المختلفة عن الموت وعن الحياة، صحيح: «من المهد إلى اللحد»؟ لكن لهذا قطب ولذاك قطب .. وفكرة الفلسطيني عن الحرية أن تجمع القطبين، بحيث يبدو الموت سفراً إلى حياة أخرى.