لا مراء أن الرئيس الـ45، دونالد ترامب، هو «فوق العادة» على غير صعيد، بما فيها كيف بدا في حفلة تنصيبه مكشّراً أو «ضارب بوزه» خلاف ابتسامات سلفه وزوجته، الأكاديمي المثقف وصاحب «الرؤى» باراك أوباما.
من أصعدة «فوق العادة»، غير وضعه «الصفقة» مكان «الرؤية» أن جولته الخارجية، بعد مائة يوم على رئاسته، لن تبدأ، كعادة أسلافه، بزيارتين للجارتين: المكسيك وكندا، الأولى لاختلافه مع رئيسها حول الجدار؛ والثانية لخلافها معه حول قيود الهجرة على مواطني دول إسلامية.
لعلّ ما يعنينا من طباع رئيس «فوق العادة» أن سلفه الضاحك، بل كلينتون، داعب الرئيس عرفات، خلال مؤتمر كامب ديفيد 2000 بقوله: «ألا يكفيك أنني وأنت غير يهوديين؟ هذا لأن مستشاره دينيس روس اليهودي منحاز إلى إسرائيل، ووزيرة خارجيته، مادلين أولبرايت ذات جذور يهودية.
هل من صدفة؟ رئيس «فوق العادة» اختار كل طاقم المفاوضات في الموضوع الفلسطيني ـ الإسرائيلي من اليهود، بل من خريجي المدارس الدينية اليهودية. غرين ـ بلات، جيرهارد (جارد) كوشنير، سفيره لدى إسرائيل دافيد فريدمان، علماً أن 80% من الأميركيين اليهود صوتوا، كالعادة، لمنافسته هيلاري كلينتون (و90% من الفرنسيين اليهود ومعظم الفرنسيين المسلمين صوتوا للرئيس الفرنسي ماكرون).
الرئيس «فوق العادة» لا يسمع إلاّ ما في رأسه، وبجرة قلم يقيل من يخالفه من طاقم مساعديه، كما فعل، مثلاً، بمستشاره السابق للأمن القومي، الجنرال مايكل فلين، وعيّن الجنرال مكماستر خلفاً له، وهذا تحدث، مؤخراً، وبصراحة، عن حق الفلسطينيين في تقرير المصير، قبل عشرة أيام من قمة ترامب مع رؤساء عرب ومسلمين في الرياض.
لنلاحظ أن الرئيس الفلسطيني عقد في اليوم السابق من زيارته الأميركية وقمته مع الرئيس «فوق العادة» اجتماع عمل مع السيد جارد اليهودي، مستشار ترامب وزوج ابنته الأثيرة ايفانكا، وخرج منه بانطباع جيد عنه.
سفيره لدى إسرائيل، دافيد فريدمان، نصح المسؤولين الإسرائيليين ألا «يناكفوا» الرئيس ترامب، وأكّد لهم أن ولاءه لرئيسه يتقدم على ولائه لإسرائيل ومشاريعها الاستيطانية.
إسرائيل الرسمية انزعجت من حفاوة ترامب بضيفه الفلسطيني، حيث غيّر الأميركيون البروتوكول الصارم، ورفعوا علم فلسطين خلف منصة ترامب.
ما لا يعرفه البعض أن مصادر رسمية إسرائيلية انزعجت من لقاء الرئيس الفلسطيني بالسيد رونالد لاودر، رئيس المؤتمر اليهودي العالمي في منزل الأول، الذي قدّم نصائح للأخير في التعامل مع ترامب، بل وأوصى مطعماً فاخراً بتقديم وجبة خلال لقاء عمل بين الرئيسين، علماً أن لاودر يعمل، منذ سنوات، على مشروعه الخاص للسلام.
الواقع، أن الرئيس عرفات خلال زيارته الأولى إلى الرئيس ميتران، ونطقه بنصيحته أن الميثاق الوطني الفلسطيني صار «كادوكاً» متقادماً، اجتمع في باريس برئيس سابق ولامع للمؤتمر اليهودي العالمي، ناحوم غولدمان، وكذا برئيس وزراء فرنسي سابق ويهودي، منديس فرانس.. ولاحقاً، التقى أبو مازن برئيس سابق للمؤتمر اليهودي العالمي، هو ابراهام بورغ، الذي قدم للرئيس الفلسطيني مشروع سلام أعدّه، علماً أنه شغل منصب رئيس الكنيست، ثم استقال من حزب العمل، وانضم إلى حزب «راكاح»!
في فصلية «أوراق فلسطينية» الصادر عن مؤسسة ياسر عرفات لشتاء وخريف 2017 أجمل الباحث نظير مجلي، من فلسطينيي إسرائيل، ثمانية مشاريع إسرائيلية للحل، متطرفة وأكثر تطرفاً، وجميعها لا تتحدث عن «حل الدولتين» أو عن حق تقرير المصير الفلسطيني، كما نقل المستشار الجديد للأمن القومي، الفريق هربرت مكماستر، الذي خدم الجيوش الأميركية في أفغانستان والعراق، ووصفه ترامب أنه يملك «خبرة مذهلة» و»محترم من كل الجيش»، علماً أن معظم القادة العسكريين الأميركيين يرون أن الأمن القومي الأميركي يتطلب حلاً للمسألة الفلسطينية على هامش المسألة اليهودية والإسرائيلية.
الرئيس الفلسطيني كسر إرسال نتنياهو، الذي طالما فضّل مفاوضات مباشرة زعم أن أبو مازن يتلافاها، كما فعل خلال مهمة الشهور التسعة لجون كيري، لكن صار نتنياهو يتهرب من قمة موسكو المقترحة من بوتين، وقمة القاهرة المقترحة من السيسي.. والآن، لا يمانع أبو مازن أن يجمعه ترامب مع نتنياهو.
جدول الأعمال المزدحم والقصير زمنياً، لزيارة ترامب لإسرائيل وفلسطين، غير مواتٍ إلاّ لقمة أميركية عربية وإسلامية في الرياض، لإيجاد رابط بين مبادرة السلام العربية، المقرّة مجدداً في قمة عمّان، وبين «الصفقة الكبرى» التي يقترحها ترامب، الذي يريد تحالفاً عربياً ـ إسلامياً سنياً ضد إيران وتحالفاً روسياً معها في سورية، بينما يطلب بوتين تعاوناً روسياً ـ أميركياً في سورية ولمقاومة «الإرهاب».
طالما كرّر أبو مازن أن مقاومة الإرهاب تبدأ بوضع حدّ للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وهو ما يراه معظم الجنرالات الأميركيين.
صاحب شعار «أميركا أولاً» يريد من حلفائه، وخاصة السعودية، أن تدفع من مالها الوفير لقاء حمايتها من إيران، وأن تدفع دول «الناتو» الأوروبية 2% من ميزانيتها للأمن، علماً ان أميركا تنفق على جيوشها ومخابراتها 8% من ميزانيتها العسكرية التي تفوق الميزانية العسكرية لـ25 دولة نامية، ما عدا روسيا والصين.
هذا تطوير أميركي لبرنامج «الإعارة والتأجير» لحلفاء أميركا خلال الحرب العالمية الثانية، بما يجعل جنود أقوى قوة عسكرية في العالم كأنهم «مرتزقة» بينما بلادهم تملك 600 قاعدة عسكرية علنية على نطاق العالم.
إلى قوتها العسكرية الهائلة، فإن أميركا تحتل المرتبة 25 في العلوم، و40 في الرياضيات، ونصف أساتذة «معهد ماساشوستس MIT للتكنولوجيا مولدون خارج أميركا!
الإدارات الأميركية، منذ الرئيس جونسون، تدعم أمن إسرائيل، وقمة الدعم كانت من إدارة الرئيس أوباما، التي قدمت لإسرائيل 36 مليار دولار على مدى عشر سنوات مقبلة، لكن إدارة ترامب تعهدت إلى ذلك بصدّ كل المحاولات لإدانة إسرائيل في المحافل الدولية، وهي ستطلب من إسرائيل، مقابل ذلك، موافقة على «الصفقة» ومشروع السلام العربي، وحق تقرير المصير الفلسطيني.
قمة الرياض، والزيارة لإسرائيل وفلسطين، توطئة لقمة عربية ـ إسرائيلية ـ أميركية ـ فلسطينية مخططة في الخريف، لمواكبة المفاوضات المباشرة.
إذا «انعجق» نتنياهو إزاء مشروع «الصفقة» فسيلجأ إلى الانتخابات، وتقول أميركا له: استبدل «البيت اليهودي» ونفتالي بينيت بالمعسكر الصهيوني برئاسة اسحاق هيرتسوغ.
الفلسطينيون كسبوا، ولم يحسموا بعد، معركة أوروبا مع إسرائيل، منذ بيان قمة البندقية، أواخر سبعينات القرن المنصرم، ومنذ أوسلو يخوضون مع إسرائيل معركة أميركا، حيث تحسم فيها معركة أوروبا ومعركة إسرائيل مع «حل الدولتين».
للقيادة الفلسطينية أسبابها في الرهان على ترامب، لكن لشعبها أسبابه في الرهان على تفشيل إسرائيل لمهمة ترامب و»صفقته»، كما سبق وأحبطت «رؤية» أوباما، لكن «الصفقة» تتحدث للمرة الأولى أميركياً عن «حق تقرير المصير» الفلسطيني ومن دونها لا يستقيم الحكي عن «حل الدولتين» أولاهما قائمة، والأخرى يجب أن تقوم.
نعم، نتنياهو القوي ذكي، لكن ابو مازن الضعيف يفوقه ذكاء في «الإرهاب الدبلوماسي والسياسي»!