بقلم : حسن البطل
محمود والد طارق. الاثنان من رعايا السلطة الوطنية الفلسطينية. الأول هو الأب والرئيس محمود عباس (أبو مازن)، الرئيس الثاني للسلطة، وسياستها «حل الدولتين». الابن طارق خياره هو الدولة الواحدة، المشتركة الديمقراطية.
عرفت هذا من جواب رئيس السلطة على سؤال صحافي أجنبي: هل يميل الابن الثالث، ياسر، إلى سياسة والده، أم إلى خيار أخيه؟ الرئيس يكبرني بأقل بقليل من سنوات عقد، وخياري هو سياسة رئيس السلطة. لماذا؟
حصل قبل السلطة وأوسلو، أن اختلفت فصائل المنظمة حول سياسة السلطة، ومن قبل حول برنامج المنظمة المرحلي: السلطة الوطنية؛ برنامج النقاط العشر لعام 1974 ، حصل أن انشقت بعض فصائل المنظمة بعد خروج بيروت، وانشقت بعض منظماتها الشعبية، وبالذات اتحاد الكتاب والصحافيين، بل وانشقت القوات الفدائية المسلحة لفصيل «فتح» وفصائل أخرى.
الآن، شجر خلاف بين دعاة «حل الدولتين» ودعاة «حل الدولة المشتركة». يقال إن «كادوك» ميثاق المنظمة صار «كادوك» «حل الدولتين»، بما يذكرني بخلاف الشعب الفلسطيني في مرحلة ما قبل تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، وفي جوهره كان خلافاً بين دعاة التحرير القومي العربي لفلسطين؛ ودعاة الكيانية الوطنية الفلسطينية.
كان أحمد الشقيري، رحمه الله، مكلفاً، من جامعة الدول العربية، بدعوة فلسطينيي الشتات واللجوء، إلى تشكيل سياسي فلسطيني، هو بمثابة نواة للكيانية السياسية والاستقلالية الكفاحية، في إطار برنامج العودة والتحرير القومي.
هل تصدقون؟ روت لي أختي أن نساء الشتات السوري رفعن الأحذية في وجه الشقيري لأن في هذا خذلاناً للتحرير القومي بزعامة ناصرية، ففلسطين قضية عربية أولى ومهمة تحريرها قومية عروبية.
كان أول مقر للمنظمة في دمشق مجرد شقة سفلية من عمارة سكنية آخر شارع الإنشاءات الدمشقي، وفي مقابلها شقة سفلية كانت تشغلها «الهيئة العربية العليا» لفلسطين، برئاسة الحاج أمين الحسيني، ونادراً كنت أصادفه بطلّته الوقورة والمهيبة، وكانت الهيئة تصدر مجلة شهرية، ولا أعرف هل «حكومة عموم فلسطين» لأحمد حلمي فعلت مثل هذا. المهم أن «الهيئة» و»حكومة» العموم طواهما النسيان. الأولى ذوت، والثانية قُمعت بخلافات عربية عربية بعد ضم الأردن للضفة الغربية.. خصوصاً.
كان الضابطان العراقيان عبد الكريم قاسم، وعبد السلام عارف، من قوات حاربت مشروع تقسيم فلسطين، وصار الأول رئيساً للعراق، ومن دعاة الكيانية الفلسطينية.
عبد الناصر، الضابط في حصار الفالوجا خلال حرب 1948، صار قائد ثورة يوليو 1952، ثم رئيساً لمصر، ورئيساً للجمهورية العربية المتحدة (مصر وسورية)، وبعد انفصال سورية 1961، التقى ناصر في مصر بوجهاء قطاع غزة عام 1963 وصارحهم (صدمهم!) بالقول: ليس لديّ خطة لتحرير فلسطين.. وهذا قبل عام واحد من قرار الجامعة العربية 1964 بتشكيل منظمة التحرير الفلسطينية، وكان الشقيري من قبل مندوب السعودية في الأمم المتحدة، وصار يفاخر أنه يحك كتفه بأكتاف الزعماء العرب.
هزيمة 1967 أنهت حلم التحرير القومي، وفشلت حرب العام 1973 في استعادة الأراضي العربية المحتلة، فأصدرت (م.ت.ف) برنامج النقاط العشر، كأول برنامج للاستقلالية السياسية والنضالية الفلسطينية، تمهيداً لأول مراحل الكيانية السياسية الفلسطينية.
البرنامج المرحلي 1974 أنتج انقلاباً في إدارة تحرير المجلة المركزية «فلسطين الثورة» من دعاة التحرير القومي، إلى دعاة الكيانية الفلسطينية. المهم أنه على تعدد الانشقاقات الفصائلية، لم تنشق هيئة جديدة لتحرير المجلة، التي انتهجت خط السلطة الوطنية، لا في مرحلة ما قبل خروج بيروت، ولا في مرحلة ما بعد أوسلو، وبعد أن تبعثر محرروها بقوا مع «حل الدولتين».
حسب محمد اشتية رئيس حكومة مرحلة فرض ضم الأمر الواقع الإسرائيلي لـ 30% من الضفة، فإن السلطة الوطنية ستصبح فرض دولة فلسطين المحتلة، دون اتفاق مع إسرائيل.
بعد انسحاب السلطة من الالتزام باتفاقيات أوسلو وما بعدها، سألت المدعية العامة للجنائية الدولية، كلاً من السلطة ومن حكومة إسرائيل سؤالاً أجابت عنه السلطة، وحتى الآن لم تجب إسرائيل.. ثم حسمت، لا شرعية للضم وأراضي السلطة تبقى أرضاً محتلة، وتبقى فلسطين «دولة طرف» في نظام روما الأساسي للمحكمة، فهي وقّعت عليه، وإسرائيل لم توقّع، وتدعي أنه لم تكن هناك قط دولة فلسطينية، والسلطة ليست ذات مقومات دولة مستقلة.
يبدو قرار فرض الدولة كأمر واقع مثل رمي حجر في الهواء، لأن للدولة المستقلة ثلاثة أسس: سيادة على الأرض. سيادة على شعب الأرض.. واعتراف دولي بسيادتها. ليس للسلطة والدولة المعلنة سيادة على الأرض، ولها سيادة إدارية على كل أو معظم الشعب.. لكنها تتمتع باعتراف 138 دولة بها.
الاعتراف الدولي ركن مهم جداً، لأن حكومة السراج الليبية مثلاً تعتمد عليه في صراعها مع المشير حفتر، وكذلك تركيا في دعمها لحكومة الوفاق، من غير الوارد أن تسحب دول اعترافها بفلسطين دولة، أو تتراجع الجمعية العامة عن ذلك بصفة دولة فلسطين عضوا مراقباً.
الأهم، أنه باستثناء إسرائيل أولاً وأميركا الترامبية ثانياً، فكل دول العالم ضد خطة الضم الإسرائيلية، ومع «حل الدولتين»، والفرق بين إدارة ترامب وحكومة نتنياهو أن الأولى مع دولة فلسطينية مبعثرة ومنقوصة السيادة، والثانية ضد الدولة جملةً وتفصيلاً.
يمكن فرض «حل الدولتين» على إسرائيل في حالتين: إن اعترفت دول رئيسية أوروبية بها، وهذا ما تسعى إليه السلطة في اقتراحها المضاد لـ»صفقة» ترامب ـ نتنياهو، أو تقبل دولة مثل لعبة الليغو Ligo الناقصة، وهي لن تقبل ذلك، كما لن تقبل إسرائيل اليهودية اليمينية بـ «حل الدولة الواحدة»، لأسباب أعمق في تكوينها وفي عنصريتها وفي يهوديتها.
هناك جدل فلسطيني حول «حل الدولتين» وخيار «الدولة المشتركة»، وجدل في إسرائيل.. والموضوع الأساسي هو حق تقرير المصير الفلسطيني.
فكروا لماذا انفصلت تشيكوسلوفاكيا إلى دولتين: سلوفاكيا وتشيكيا بعد وحدة قسرية اشتراكية، ولماذا تم الانفصال حسب حق تقرير المصير. كانت تشيكوسلوفاكيا دولة ذات شعبين وقوميتين، لكن اتحدت ألمانيا لأنها دولة ذات شعب واحد وقومية واحدة.
لا يمكن خلط متجانس للزيت بالماء. أولاً حق تقرير المصير الفلسطيني في دولة مستقلة، وبعد جيل أو جيلين ربما تتشكل دولة كونفدرالية: يهود في دولة فلسطين؛ وفلسطينيون في دولة إسرائيل.