لمزاجي الصباحي أركان ثلاثة: قهوة، سيكارة.. وجريدة. أفيق في الثامنة، وأصحو في الحادية عشرة. افتقدت الركن الثالث في عطلة ممتدة لـ"العيد الكبير" كما كنا ندعوه أولاداً. و"الصغير" هو عيد الفطر.
في هذا العيد، خلافاً لسابقيه، احتجبت "الأيام" أياماً أربعة.
عن الركن الثالث، استعضتُ بـ"خير جليس". تذكرت ما قاله كمال جنبلاط، مشيراً إلى رفوف مكتبته، قبل مقتله: "يا عمي بدها عمر ثاني لأقرأ". من رفوف مكتبتي استللت كتابين أهملتهما: "دمشق؛ ذاكرة الوجوه والتحولات" لمؤلفه محمد منصور، صادر العام 2014، وأهداه إلى "دمشق، التي كانت قبل حكم البعث أجمل التاريخ.. كان غداً.
بعد النكبة الفلسطينية 1948 قال عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) شعراً: "حملت دمشق رسالة العرب/ أموية الأعطاف والنسب". شاب الزمان على مشارفها/ دمشق في الريعان لم تشب.
النكبة السورية الراهنة أدهى من الفلسطينية أضعافاً. كان للفلسطينيين هجرة أخرى إلى الشام في العام 1099 ميلادي، إبّان الاحتلال الصليبي للقدس، حيث أسسوا "حي الصالحية" لأنهم عُرفوا بالتقى والصلاح، فجعلوا الحي ما يشبه مدينة العلم والعلماء. عن هذا قال الشيخ المصري علي الطنطاوي ".. كان من عجيب أمرهم نشر العلم بين النساء، حتى ظهر منهن من العالمات والمحدّثات ما لا أعرف مثله في عصر آخر، وأنشؤوا من المدارس ما تعجز عنه دولة".
فهمت، متأخراً، لماذا لما كنت أرى طفلاً في أسواق دمشق الشعبية العتيقة محلات ذات أسماء: المقدسي، الخليلي، النابلسي.. إلخ.
ابن جبير، الرحالة الأندلسي، قصد دمشق أواخر القرن الثاني عشر الميلادي. قال: "من شاء الفَلاح فليرحل إلى هذه البلاد، ويتغرب في طلب العلم، فيجد الأمور المعينات كثيرة.
كانت معظم رحلات أهل المغرب لا بد أن تمر من دمشق، وتمكث فيها.. ومن الذين مكثوا فيها ثلاثة عقود حتى وفاتهم الأمير عبد القادر الجزائري. أسس أتباعه الـ 200 ما يعرف بـ "رباط المغاربة" في حي السويقة، وقام عبد القادر بالتدريس في الجامع الأموي، وكان له دور مشهور في إطفاء فتنة العام 1890 بين المسلمين والمسيحيين. قال في جمال قصره في ضاحية دمّر وفيها شعراً جميلاً.
إلى حكاية أخرى؟ في أي بلد عربي تولّى زعيم مسيحي رئاسة الحكومة؟ حصل هذا العام 1944، عندما تولّى فارس الخوري رئاسة السلطة التنفيذية، ومن قبل رئاسة المجلس النيابي السوري العام 1936، وانتخب العام 1947 عضواً في مجلس الأمن، ومن ثم رئيساً دورياً له، بعد أن سبق وشارك في توقيع ميثاق الأمم المتحدة.
يُروى أن سورية طلبت اجتماعاً للجمعية العامة لإنهاء الانتداب الفرنسي. قبل الاجتماع دخل الخوري، واحتل مقعد المندوب الفرنسي، الذي أرغى وأزبد.. خمس دقائق، إلى أن قال له الخوري: "سعادة السفير. جلست على مقعدك خمس دقائق، فكدت تقتلني غضباً وحنقاً.. ماذا نقول، نحن السوريين، الذين تجثم فرنسا على صدورنا منذ خمس وعشرين سنة"؟
قبل ذلك، دخل الخوري إلى المسجد الأموي أثناء صلاة الجمعة، واستأذن الصعود إلى المنبر، وقال: "إذا جاءت فرنسا للدفاع عن مسيحيي سورية، فنحن لسنا بحاجة إلى حمايتها، لأننا في وطننا أعزّاء. إذا نجحت بحمايتنا من المسلمين، فإنني، كمسيحي "أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أن محمداً رسول الله". حمله المصلُّون على أكتافهم وطافوا به أزقة دمشق.
من قبل، فاز الخوري بمقعد دمشق في انتخابات المجلس النيابي بـ 81 صوتاً وورقة بيضاء وواحدة.
الكتاب من 8 فصول، اخترت منها ثلاثة، لأن صورة دمشق وسورية الآن لا تعكس صورتها الحقيقية.
معلوف الآخر
في رواية "حياة متخيّلة" اكتشفت روعة ما يكتب ديفيد معلوف، أو معلوف الثاني: أمين معلوف، عضو "الأكاديمية الفرنسية" وصاحب المؤلفات الروائية التاريخية الشهيرة. معلوف الثاني، ولد في أستراليا، وهو روائي وروايته عن فترة "الإمبراطورية الرومانية"، وصدر عن "دار المدى ـ عمان 1996، بترجمة باهرة من الشاعر سعدي يوسف.
هو كتاب من النثر الشعري المتين والجميل، وتولّى الشاعر سعدي يوسف، المتمكن من اللغتين، من نقله بروعته كأنه كتب بالعربية، كما أمين معلوف متمكن تماماً من اللغتين، وكذا حال صديقي الشاعر التونسي محمد علي اليوسفي، صاحب الترجمات المشرقة من الفرنسية، شعراً ونثراً.
قال في نقد كتاب "حياة متخيلة" ناقد بريطاني: "رواية تطلب من القارئ ما تطلبه القصيدة، اقتراباً وانتباهاً مفعماً بالخيال".. وقد تكون لي عودة للرواية.
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع
نقلا عن الأيام الفلسطنية