شربتُ من كأس الخيبة. كيف؟ زرتُ القاهرة لأوّل مرّة.. ولم أرَ النيل. مناسبة الزيارة كانت تكريمي، قبل ثلاث سنوات، وثُلَّة من الصحافيين العرب، بدرع اتحاد الصحافيين العرب في حقل اليوبيل الذهبي للاتحاد. عدت بدرع ثقيلة، وكان ودّي أن أرى محمد حسنين هيكل، الذي اعتذر عن حضور الحفل وتكريمه لارتباطات سابقة!
بدلاً من هيكل، حظيتُ بدردشة عابرة على الواقف مع الرئيس السيسي. قلت له: سيادة الرئيس: التاريخ العربي تاريخ قبائل قبل الإسلام، وتاريخ خلفاء بعده.. والآن يبدأ تاريخ شعوب!
شربت من ماء النيل ولم أرَه، مع أنني في يفاعتي وزمن الوحدة السورية ـ المصرية بالذات، تشرّبت معرفة مصر من صحفها ومجلاتها كافة، وبالذات من «كتاب الشعب» الذي كانت توزعه جريدة «الجمهورية» شهرياً على المشتركين من جامعي «الكوبونات».
من أحلامي، غير رؤية النيل، أن أركب سفينة تبحر فيه من الصعيد إلى القاهرة، وكاد الحلم أن يتحقق هذا الشتاء لولا «فركشة» الأصدقاء للرحلة، فهم سيصطحبون زوجاتهم، وليس لي زوجة ولا حبيبة أو صديقة!
الأسهل من رسم خارطة فلسطين هو رسم خارطة مصر، التي تشبه علبة سردين مربعة.. محشوة بالمشاكل، وأهمها فرط زيادة السكان البالغين حالياً 90 مليوناً، أي بعد نيجيريا وأثيوبيا، ويتوقعون أن يبلغ تعدادهم عام 2050 زهاء 170 مليون.
أعرف، أنكم تهتمون بمصر الأمنية والسياسية والديمقراطية. أي أمنها مع ليبيا وفي سيناء.. وأمنها الحيوي ـ المائي مع سدّ النهضة الأثيوبي، وانتخابات رئيسها!
هذا الربيع، ستجري انتخابات رئاسية مصرية، هي الثانية منذ انتخاب الرئيس السيسي، ومنذ أن صارت فترة ولاية الرئيس أربع سنوات.
الأصدقاء يُعَلِّقون على انسحاب الفريق المتقاعد أحمد شفيق، الذي نافس في انتخابات أوّل رئيس مدني ـ إخواني، وأخفق بكسور عشرية، قيل إن قائد الجيش آنذاك محمد حسين طنطاوي لعب فيها، خشية على أمن البلاد من حرب أهلية يدبرها «الإخوان»؛ إن فشل المرشح مرسي.
بعد 80 سنة من «التمكين» الإخواني الفاشل، أعاد الجيش حكم مصر، فتذكرت كتاب أنور عبد الملك الشهير عن مصر التي يحكمها العسكر منذ انقلاب العام 1952!
هل تتذكرون؟ في العام 1977 كانت انتفاضة الخبز في مصر، التي دعاها الرئيس السادات «انتفاضة الحرامية»!
لكن، بعد انتفاضة «ساحة التحرير» ضد حكم حسني مبارك، تدهور الاقتصاد المصري، لتدهور السياحة لأسباب أمنية، ولأن فرط زيادة السكان يبلغ مليوني مولود سنوياً، وكادت تجفّ احتياطات مصر من العملة الأجنبية، وصار الشيكل الإسرائيلي يعادل سعر صرف خمسة جنيهات!
حاول السيسي تعويم الاقتصاد المتهاوي بمشاريع عملاقة مثل توسيع قناة السويس، وبدء بناء «القاهرة ـ الجديدة»، وقبول إصلاحات البنك الدولي، وبدء تشغيل حقول الغاز البحرية العملاقة، بما سيمكّن مصر من العودة إلى تصديره.
الإصلاحات الهيكلية الاقتصادية ألقت عبئاً ثقيلاً على الشعب، لكن العام المنصرم بدأت بوادر نجاح تعويم الاقتصاد، وارتفعت موجودات النقد الأجنبي من 13 ملياراً بعد انتفاضة عام 2011 إلى 38 ملياراً حالياً.
شخصياً، أنا مهتم بمصر الاقتصادية أكثر من السياسية والأمنية؛ لأن الاقتصاد القوي عمادهما، لتعود مصر قوة إقليمية وازنة لإيران وتركيا.. وإسرائيل، أيضاً.
عضلات الجيش المصري القوي يلزمها سيقان اقتصادية قوية، وللجيش المصري ذراع اقتصادية وإنتاجية، كما أنه جيش منضبط.
لأحمد شفيق أسبابه في الانسحاب من التنافس مع الرئيس السيسي، لكن لعله أمر لا يؤثر على تنافس عسكريين كبيرين على دور الجيش وانضباطه، لكن الفريق سامي عنان أقل قوة من الفريق أحمد شفيق على من منافسة السيسي، ولا تبدو فرصة لمرشح مدني.
في حكم السيسي عادت روسيا إلى مصر عسكرياً واقتصادياً بالذات، مع مشروع بناء محطات ثلاث نووية للأغراض السلمية، كما جرى الاتفاق بعد زيارة بوتين لمصر.
ماذا عن حصة مصر في مياه النيل بعد بناء أثيوبيا سدّ النهضة؟ تقول «لوموند دبلوماتيك» في عددها الصادر في كانون الأول: إن كفاءة تدوير المياه في مصر هي الأعلى في أفريقيا... لكن، المطلوب رفع هذه الكفاءة لتضارع الكفاءة الإسرائيلية في التدوير، ونزع ملوحة مياه البحر «زملحة»، لتعويض الفارق بين حصة مصر من النيل البالغة 60 مليار م3 واحتياجاتها البالغة 114 مليار م3.
كثير من قرؤوا دراسات جمال حمدان عن عبقرية مصر في المكان، المكملة لدراسات علماء حملة بونابرت في «وصف مصر». ما يلزم مصر هو نوع من «عبقرية الإنسان» القادر على تعويمها ونهضتها الاقتصادية، ومن ثم السياسية ومن بنى الأهرامات ـ المعجزة، عليه أن يبني هرماً اقتصادياً للبلاد، كما فعلت اليابان والصين وكوريا الجنوبية وتفعل الهند.