بقلم : حسن البطل
بأسلوب الـ "فيديوتيب" تتراءى الحقائق عوجاء لا مستقيمة، والمغالطات مستقيمة غير عوجاء، ليصل بنا ذلك الأسلوب إلى انطباع عجيب : "نحن" الجيران المزعجون، و"هم" أهل البيت المؤدبون!
فـ"القناة الثانية" الإسرائيلية عرضت، شريطاً وثائقياً يحاول أن يقنع الجهة التي أعدّته، بأن الخطر يهبّ من جهة "الاستيطان" الفلسطيني العشوائي! ولتدعيم وجهة نظر تلك الجهة الاستيطانية، التي "تقببت" رؤوس أركانها حسب الأمزجة، والتحت وجوههم حسب الأمزجة كذلك، فإن الشريط السينمائي، مرفق بخرائط طبوغرافية .. ولعبة المونتاج والمكساج تبدو سهلة آنذاك!
والخلاصة، التي يشرحها أولئك المستوطنون المقببون الملتحون وزعماؤهم، كالتالي: الاستيطان اليهودي (الذي يبدو عشوائياً، لكنه مدروس) يهدّده الاستيطان الفلسطيني (المدروس .. وإن بدا عشوائياً!).
يعرف الاطفال، ورواد الفضاء؛ علماء النفس ورجال السيرك والسينما حقائق ألاعيب، متفاوتة المهارة، من "الخداع البصري" .. لكن المستوطنين المقببين هم من نمط يعتبر الخداع البصري هو السليم، والرؤية السليمة للواقع الفعلي هي العوجاء.
في احصائيات الكارتوغرافيا (الخرائط) اليهودية "البريئة" ان المستوطنات ذاتها، أي مساحة مسطح البناء لا تشغل اكثر من 4% من اجمالي مساحة الضفة الغربية .. وأما "المجال الحيوي" لتلك المساحات فشأن آخر .. قد يلتفت اليها البشر الحذقون، عندما تشرف بعض منازل "بيت إيل" الجاهزة على دورا القرع من علٍ .. مثلاً! وفي مقارنات الجيوبولتيكا اليهودية تبدو فلسطين بأسرها مثل قلامة ظفر في البحر البري العربي.
وفي لعبة مركّبة من الفيديوتيب والكارتوغرافيا والجيوبولتيكا، بدت منطقة المثلث، في مفاوضات رودوس 1949 لا أكثر من سنتميتر واحد على خارطة طبوغرافية لفلسطين من مقياس معين.
وللأرقام، أيضاً، ألاعيب وأحابيل، بعضها لطيف ومسلٍّ، وبعضها يبدو من غرائب السحر العجيب!
الكارثة تتجمع سُحبها الداكنة في الأفق شيئاً فشيئاً، عندما يصدق اللاعبون بالخدع البصرية، وبالأرقام، أيضاً، أنفسهم، فيصبح الخداع البصري حقائق ومسلمات .. وانخداعا ذاتياً، وتستطيعون ان تروا آنذاك جدالاً صاخباً بين فلاح فلسطيني وبين مستوطن يهودي حول متر أرض او دونم أرض .. او عشرات الدونمات، فتبدو المثيولوجيا اليهودية مدعمة تماماً، بل مُشبعة ومترعة، بالتصديق الذاتي .. الذي يقود الى النتيجة التالية: ليس الاستيطان اليهودي سوى الحق والحقائق، وأما الديموغرافيا الفلسطينية والجغرافيا الفلسطينية فليستا اكثر من "مجال حيوي" لذلك الاستيطان "السرطاني" .. غير الخبيث، لأنه لا "ينتشر" سوى على مساحة 4% من الضفة.
وعندما يصل ذلك الشريط الذي أعده المستوطنون الى الجماعات اليهودية الممولة، تستطيعون، قطعاً، تصوّر الحمّى التي يهيجها لدى "المشاهدين عن بعد". سيصعب، آنذاك، اقناع أولئك المشاهدين - المموّلين - المحمومين، بمبادئ اولية في علم المساحة، وفي حقائق الطبوغرافيا؛ ومنها : أن المساحة العامة، الاجمالية "خادعة". فهناك "المساحة المفيدة" وهنالك المساحات القفراء. هنالك مكامن مياه واراض خصبة، وهنالك أراضٍ فقيرة التربة، او شحيحة المياه.
من الذي سيقتنع من بين هؤلاء "السكارى وما هم بسكارى" بأن مساحة المستوطنات، حتى بدون "مجالها الحيوي" أكبر من مساحة المدن الفلسطينية الحرة، المصنفة "منطقة أ"؟ ومن الذي سيقتنع بأن ذلك الاستيطان السرطاني، قليل الانتشار ظاهرياً، له جذر يمتد الى جوف الارض (مكامن المياه) وفروع تغطي السماء الفلسطينية بأسرها.
مع مثل هؤلاء الذين يسلحون المثيولوجيا بالخدع البصرية الحديثة، لا يمكن النقاش .. وعبثاً يكون الحوار!
يريد اليهود المستوطنون استيطاناً بشرياً لهم في أراضينا يكون أفقياً أحياناً، أو عامودياً أحياناً.
كما يريدون لنا تكييف الاستيطان الفلسطيني، أفقياً أو عامودياً، حسب ما يخدمهم! أما الحقيقة التي علينا فرضها فرضاً على عيونهم وعقولهم وقلوبهم، فهي بسيطة : هذه أرضنا. ونحن أحرار ان نستوطن فيها كما نريد. ان ننتشر كما نريد. وأن نتسلق عامودياً وقتما نريد وبالشكل الذي نريد .. وحتى لا تبتلع ذراعا "بيت ايل" و"كريات سيفر" رام الله.. كما ابتلعت تل أبيب يافا.
لقد جلسوا على أعالي التلال الفلسطينية ما استطاعوا. والمشكلة في الخليل ان الفلسطينيين يطلون، هذه المرة، على المستوطنين القابعين في بيت هداسا. يا لها من مشكلة .. فأين كل سبل الخداع المثيولوجي - البصري - الكارتوغرافي؟! كانوا "يطلقون النار ويبكون" كما قالت شاعرتهم داليا رابيكوفيتش. الآن يقتلون ويضحكون .. ببلاهة هي علامة الخبل الذي يسبق الجنون الخطير.
المصدر : جريدة الأيام