على الرغم من الآثار السلبية التي خلّفها وباء كورونا على المؤسسة التعليمية والتي لا يمكن حصرها سواء أكان ذلك على صعيد ما يمكن أن يفقده الطلبة من معارف ومعلومات اكتسبوها خلال العام الدراسي وقبل الجائحة أو ما يمكن أن يسببه هذا الإبعاد الاجتماعي من ارتفاع نسب التسرب من المؤسسات التعليمية، أو تدني مستوى المساواة في التعلم بسبب التفاوت في مدى امتلاك المستحدثات التكنولوجية بالنسبة للطلبة، إلا أنه ومنذ ظهور هذا الوباء، وبعد أن قامت الأغلبية الساحقة من المؤسسات التعليمية بتنفيذ تعليمات دولها المتعلقة بالإبعاد الاجتماعي، أخذت هذه المؤسسات تبحث عن مخرج مناسب للاستمرار في مهامها التعليمية ولو بحدها الأدنى.
فاستعاضت عن لقاءات مدرسيها الوجاهية وتواصلهم مع طلبتهم داخل مقراتها إلى اللقاءات الافتراضية والتواصل الإلكتروني بمختلف أشكاله من خلال ما تيسر من أدوات وتطبيقات وأنظمة، بحيث مكنت المعلمين من توصيل المواد التعليمية والمهام الدراسية باستخدام البريد الإلكتروني ومواقع الويب والتخزين السحابي وبرامج مؤتمرات الفيديو. ورغم قلة الإمكانات المادية المتمثلة بتوفر الأجهزة والاتصال بالإنترنت، والبشرية المتمثلة بمهارات الاستخدام للتكنولوجيا سواء من قبل المعلمين أو الطلبة، إلا أن التحول الذي طال ممارسات العملية التعليمية بصورتها التقليدية إلى ممارسات مختلفة بصورة جذرية تعتمد على المستحدثات التكنولوجية في وقت قياسي، قد شكّل علامة فارقة في المسيرة التعليمية.
يعود الفضل في هذا التحول السريع والذي استجاب لمتطلبات المرحلة في وقت قياسي لعزم وإصرار المعلمين وإبداعاتهم في قولبة وإعادة تصميم المواد التعليمية وما يرافقها من الأنشطة والواجبات وحتى التقييمات لتتلاءم مع ما تقتضيه هذه المرحلة الطارئة. رغم ذلك، فإن هذا التحول لم يصل إلى الدرجة التي من المفترض أن يصل إليها لأسباب عديدة من بينها ضعف البنى التحتية التي يمتلكها الطلبة والمعلمون من أجهزة وإنترنت ومهارات الاتصال والتواصل ناهيك عن الخبرات التي يمتلكها الطرفان في هذا النوع من التعليم.
رغم هذا الظرف الاستثنائي الذي فرض على جميع من في المؤسسات التعليمية إبعاداً اجتماعياً كان له تداعياته في كافة مفاصل هذه المؤسسات، إلا أنه قد ساعد في تحقيق العديد من المكاسب التربوية التي نادى بها التربويون لعقود طويلة مضت، وأنتجتها دراسات وأبحاث أكاديمية علمية كالتعلم المعتمد على المتعلم والتعلم الواقعي وتنويع مصادر التعلم والتعلم بالمشاريع ومجموعات التعلم وغيرها الكثير. ولفت كذلك الأنظار بجِديّة إلى أهمية ما طرحته العديد من الهيئات والمؤسسات التربوية العالمية والعربية حول مهارات القرن الحادي والعشرين ووجوب العمل الدؤوب على إكساب النشء هذه المهارات من قبل المؤسسات التعليمية.
فقد مكنت هذا الجائحة المعلمين من توظيف أساليب واستراتيجيات تعليمية تمكن الطلبة من تقديم ما تعلموه بأساليبهم الخاصة بعد تحليلهم وتقييمهم والحكم على ما تم تعلمه بطرق منطقية اعتماداً على أنشطة عقلية خاصة بكل متعلم. وهذا من شأنه تعزيز أنماط عديدة من التفكير لدى الطلبة من بينها التفكير الإبداعي والتفكير الناقد والتفكير فوق المعرفي واتخاذ القرارات وحل المشكلات.
إن أنماط التفكير هذه والتي أسس لها بلوم في تصنيفه الشهير منذ خمسينيات القرن الماضي معروفة لدى كل معلم منا، ولكن قلة قليلة من يعمل من خلالها في ممارساته التعليمية التقليدية لأسباب عديدة منها ضيق الوقت المخصص للحصة أو الفصل الدراسي والالتزام بالمحتوى التعليمي في الفترة المحددة وعدم ملاءمة الطرق والأساليب التقليدية في التعليم لطبيعة هذه الأنماط وغيرها من الأسباب.
إلا أن التحول الذي سببته هذه الجائحة في التعليم حتم على المعلم انتهاج استراتيجيات تدريسية من شأنها تعزيز مهارات التفكير العليا لدى الطلبة كطرح الأسئلة وطرح وجهات النظر والاستنتاج وعقد المقارنات وغيرها من الاستراتيجيات. أضف إلى ذلك إن أدوات الاتصال والتواصل المتوفرة مهدت الطريق أمام تنفيذ هذه الاستراتيجيات من خلال عقد الحوارات والمناقشات واتخاذ القرارات وحل المشكلات والتحليل والبحث والاستنتاج.
أما فيما يتعلق بالمواد الدراسية، فقد حرر هذا التحول كلا من الطالب والمعلم من الالتزام بالمادة الدراسية ذات المصدر الواحد (الكتاب المدرسي، الدوسية)، وفتح الباب على مصراعيه للوصول إلى مصادر تعلم متعددة الأشكال والأنماط منها ما هو مفتوح المصدر ومنها ما هو متوفر على مواقع التواصل الاجتماعي ومنها ما هو موجود على مواقع المؤسسات التعليمية ذاتها. أضف إلى ذلك تحرر المعلم من الالتزام بالأنشطة والواجبات المُعَدّةِ مسبقاً في الكتب المقررة، فنرى المعلم يبدع ويبتكر ويتعامل مع طلبته بحسب احتياجاتهم الحقيقية، وفوق هذا وذاك نجده قد تحمل مسؤولية أداء مهامه.
لقد فتح هذا التحول المجال أمام الطلبة والمعلمين لأن يعيدوا النظر فيما يعرف بمهارات القرن الحادي والعشرين، تلك المهارات التي لم تحظ بما يجب أن تحظى به من اهتمام في البرامج الدراسية في مختلف المستويات. فمن خلال استراتيجية التجربة والخطأ تعززت لدى المتعلمين مهارات البحث عن المعلومة وتقييمها وتصنيفها والاستفادة منها، ومن خلال عقد المجموعات الحوارية من خلال مختلف منصات التواصل الإلكتروني، تمكن هؤلاء المتعلمون من تعزيز مهارات الاتصال والتواصل مع معلميهم وزملائهم. أضف إلى ذلك، توجيه المعلم طلبته نحو مصادر تعلم مختلفة للموضوع الواحد قد نمّى لديهم مهارات التعلم الذاتي، تلك المهارات التي تشكل اللبنات الأساسية لمهارات التعلم مدى الحياة.
وبالتالي فإن الهدف من عرض هذه الأمثلة التي نتجت عن الإبعاد الاجتماعي وتحول الممارسات التعليمية الوجاهية إلى ممارسات تعليمية عن بعد يكمن في توجيه أنظار التربويين وصانعي القرار إلى أن ما تم بذله من جهود لتطوير التعليم والارتقاء به قبل جائحة كورونا، قد تحقق ولو بشكل جزئي خاصة فيما يتعلق بدور المعلم والاستفادة من مصادر التعلم وتنمية مهارات التعلم الذاتي ومهارات القرن الحادي والعشرين لدى الطلبة وغيرها مما ورد وما لم يرد في هذا المقال، وأن فرص تعزيز هذا كله في ظل عودة المياه إلى مجاريها وانتظام الدراسة في المؤسسات التعليمية قائمة إن حَسُن التصرف.
وعليه من المفترض إعادة النظر في طرائق وسبل الارتقاء بالعملية التعليمية التي كانت تتم في الماضي والعمل على أخذ الدروس والعبر من هذه الجائحة ومما رافقها من تحول في العملية التعليمية. لابد من إعادة النظر في برامج إعداد وتأهيل المعلمين، لابد من إعطاء المعلمين مسؤولية أكبر لأدائهم المهني، لابد من تصميم مناهج مرنة تستوعب تعدد مصادر المعرفة وسهولة الوصول إليها، لابد من تطوير المساقات والمواد الدراسية التي تعنى بمهارات القرن الحادي والعشرين بما ينسجم مع ما نشهده من انفجار معرفي وتطور تكنولوجي. وأخيراً لابد من أن ننمي العقلية المنفتحة نحو مستجدات الأمور وما يطرأ من ظروف.
قد يهمك أيضا :
50 مشروعاً طلابياً في "يوم التسامح" في جامعة أبوظبي
معروف يؤكد القرار المتعلق بدوام المؤسسات التعليمية بغزة قيد الدراسة