بقلم : علي الجرباوي
ينهمر علينا كل يوم سيلٌ من التحليلات والتوقعات، وحتى التنبؤات التي يشتمل بعضها على توظيفات لنظرية المؤامرة، وجميعها تستشرف مستقبل العالم في عصر ما بعد «كورونا»، وخاصة مستقبل النظام الدولي والعلاقات الدولية. يُعبّر هذا السيل، والذي يعكس حالة القلق العام من وضع العالم حالياً، عن فكرة أساسية مفادها أن العالم لن يعود إلى عهده السابق لانتشار وباء كورونا، وأن تغيّرات ستطرأ عليه بسبب ذلك. قد يكون هذا التوقع صحيحاً، فالكثير من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحتى الفلسفية والنفسية، تأثرت ولا تزال بفعل ما يمّر به العالم حالياً من مواجهة شاملة مع هذا العدو الخفي. ولكنّ المثير للانتباه، وللقلق المعرفي، أن الكثير من هذه الاستشرافات يأتي بصيغة تقريرية يقينية حاسمة لا تترك مجالاً للاحتمالية، وكأن المسار المستقبلي للعالم قد تحددّ منذ الآن.
في الرؤى الاستشرافية يوجد فرق شاسع بين التوقع والحتمية. فالتوقع يفتح المجال للإمكانية، ما يتيح الفرصة للتفكُر والبحث واستقراء المتغيرات من أجل تدعيم الاستنتاجات. أما الحتمية فتغلق الباب على الاحتمالية، وتذهب باتجاه المطلق من الأحكام، ما يُنهي ضرورة الاستزادة في عملية البحث والاستقصاء. فالحتميات تأتي وكأنها حقائق قطعية مطلقة لا نقاش بشأنها، بينما تشكّل التوقعات البوابة العريضة للافتراضات التي تحتاج إلى بحث وإثبات.
من الأمثلة على ما يتم التداول به حالياً من حتميات عصر ما بعد «كورونا» التأكيد على موت الليبرالية، وانتهاء العولمة، وتهميش دور المنظمات الدولية والإقليمية، وتفكك الاتحاد الأوروبي، وتصاعد انغلاقية الدول وازدياد حمائيتها للذات، وتراجع المكانة الدولية للولايات المتحدة وحلول الصين قوة عظمى بديلة عنها. كل ما ذُكر يمكن، بل ويجب، أن يدخل في مجال الاحتمالات الممكنة التي من الضروري استقصاء الإمكانية المستقبلية بشأنها، ولكن لا يجوز استباق ذلك والاعلان عن هذه الاستشرافات كحقائق مثبتة وقادمة بعد انتهاء العالم من محنة هذا الوباء.
سأخصص بقية هذا المقال لفحص واحدة من هذه الاستشرافات، والتي تؤكد حلول الصين مكان الولايات المتحدة كدولة عظمى بديلة في النظام الدولي القادم بعد انقضاء المحنة. وافتراضي في هذا السياق أن الصين لا تسعى لذلك الآن، وليست بوارده لأنه لا يخدم مصالحها على المدى القصير، ما يعني أنها ستستمهل هذا السعي، حتى لو أصبح متاحاً، وتخضعه لرؤيتها وخطتها الاستراتيجية بعيدة المدى.ليس خافياً على متابعي الشأن الصيني أن الصين دولة كبرى صاعدة. فمنذ وفاة ماو تسي تونغ واستلام دينغ شياو بينغ، صاحب الفكر التعديلي للاشتراكية الماوية، دفة القيادة عام 1978، وبدئه بتطبيق نموذج «الاشتراكية ذات الخصائص الصينية» القائم على إيجاد نظام سياسي اشتراكي يرعى اقتصاد السوق، والصين تحقق قفزات كبرى متوالية في مسيرتها التنموية والنهضوية. استطاعت الصين في أربعة عقود أن تُخرج مئات الملايين من مواطنيها من دائرة الفقر، وأن تضاعف معدل دخل الفرد السنوي عدة مرات ليبلغ ما ينوف عن تسعة آلاف دولار، وأن تحقق نهضة كبيرة في بناها التحتية والصناعية، وأن تقفز باقتصادها ليصبح ثاني أكبر اقتصاد بالعالم بعد الولايات المتحدة الأميركية. وقد أدت هذه الإنجازات إلى تحسين متصاعد في مستويات التعليم والصحة في البلاد، وازدياد نسبة التمدن فيها، وإحداث نمو متسارع لطبقة وسطى جديدة وحيوية، ما جعل الصين تصبح أكبر سوق استهلاكي في العالم، وعزز بالتالي قدراتها الإنتاجية.
للمحافظة على المستويات السنوية المرتفعة لنمو اقتصادها اللازم لتدعيم استمرار عملية بناء وتحديث القطاعات الحيوية الأخرى، التعليمية والصحية والتنموية والبيئية، اعتمدت الصين بشكل رئيسي على الانفتاح العالمي في عصر العولمة، ليكون الأداة الأساسية الفعالة لتنمية وتوسيع تجارتها الدولية وتنشيط صناعاتها في مختلف المجالات. عقدت الصين شراكات واسعة ومهمة مع العديد من الشركات العالمية، تم بموجبها فتح مقرات ومصانع لها في البلاد. كما عقدت شراكات تجارية مع عدد كبير من دول العالم، ما أدى إلى تسارع وتيرة نمو صادراتها ووصولها إلى معدلات سنوية هي الأعلى عالمياً. وتوّجت الصين هذه الاعتمادية الترابطية بإطلاق «مبادرة الحزام والطريق» عام 2013، ورصدت لها مئات المليارات من الدولارات، من أجل ربط الصين بوجهات تجارية في مختلف أنحاء العالم. باختصار، تعتمد الصين في استمرار صعودها على استمرارية انفتاح العالم على بعضه، وعلى تدفق التجارة الحرّة، وعلى تواصل اعتمادية اقتصادات الدول وأسواقها المالية على بعضها البعض. العولمة، إذاً، هي الرئة التي تتنفس الصين من خلالها، وتحافظ بها على استمرار حياتها.
ليس خافياً أيضاً على متابعي الشأن الصيني أن الصين تتذمر منذ سنوات من النظام الدولي الحالي الأحادي القطبية، ومن استمرار استئثار الولايات المتحدة وتسلطها في إدارة الشؤون الدولية. وليس سرّاً أنها تسعى إلى تحويل هذا النظام الذي تعتبره مجحفاً إلى نظامٍ متعدد الأقطاب يكون لها فيه نصيب مشاركة أوسع وأهم على الصعيد الدولي مما هو عليه الحال الآن. لذلك نجدها تدفع، بدبلوماسية متزنة، هادئة، وطويلة النفس، باتجاه تشكيل خطاب خاص بها يحمل نظرتها عن الكيفية التي يجب أن تُنظم بموجبها الشؤون الدولية. هذا الخطاب يتميز بإيجابية الطرح، وتشاركية الرؤية، وتفاؤلية النظرة للمستقبل، وبالتالي يختلف عن الخطاب الغربي السائد حالياً. وبانتهاج منهج براغماتي صرف، تهتم الصين بتنمية علاقاتها الثنائية مع دول العالم المختلفة. كما تسعى بحثاثة لخلق وتعزيز الروابط الإقليمية، وتزيد من انخراطها في القضايا الدولية متعددة الأغراض، وتقوم بمحاولات جاهدة ومستمرة لتعزيز دور ومكانة الأمم المتحدة، وتدعم العمل من خلال، ومع، المؤسسات الدولية.
كل ما تقوم به الصين من مجهودات على هذه الصعد المختلفة يأتي في محاولة مركّزة منها، ولكن بتنفيذٍ هادئ، تستهدف تطويق الولايات المتحدة وزعزعة مكانتها على الصعيد الدولي. وقد تكون الطريقة الناجعة التي عالجت بها الصين انتشار وباء كورونا في البلاد، على خلاف تلكؤ الإدارة الأميركية وظهور عجزها في تلبية الاحتياجات الطبية الضرورية لمواجهة هذا الانتشار، أعطت الكثيرين من المراقبين الإشارة على تفوق الصين على أميركا، والايذان بأن النظام الدولي لا بدّ وأن يشهد انقلابا بعد انتهاء تفشي الوباء. ولكن يجب الانتباه إلى أن مصلحة الصين في المحافظة على ما حققته حتى الآن من مكتسبات على الصعيدين الداخلي والخارجي، من جهة، وضرورة استكمال ردم الهوّات في مسيرتها التنموية داخل البلاد، من جهة ثانية، يتطلب منها تفادي فتح مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة حالياً. فهي تعي أن عليها واجب استكمال الكثير من المستلزمات الضرورية قبل الوصول إلى مرحلة تصبح فيها جاهزة لمثل هذه المواجهة. وجميع الدلائل تشير إلى ذلك، وإلى أن الصين غير مستعدة أو راغبة بالدخول في المواجهة المصيرية الآن. وخير مثال على ذلك أنها واجهت الحرب التجارية التي شنّها عليها الرئيس الأميركي مؤخراً بحزم، ولكن ليس بصدامية متهوّرة، بل كانت توجهاتها توفيقية وتراضوية.
لا تُخفي الصين رغبتها أو سعيها للوصول إلى قمة النظام الدولي، ولكنها لن تتهور وتجازف بانتهاز فرصة قد تُرى وكأنها مواتية الآن، وهي ليست كذلك. وقد كانت الصين قد أعلنت للملأ خلال انعقاد المؤتمر التاسع لحزبها الشيوعي عن خطتها الاستراتيجية للوصول إلى تلك القمة، والتي تتطلب منها المرور في ثلاث مراحل. الأولى كان مخططاً لها أن تنتهي عام 2020 بالقضاء الشامل على الفقر في البلاد، وسيتأخر تحقيق ذلك بسبب تفشي الوباء. والثانية تنتهي عام 2035 بتحقيق وصول الصين إلى مقدمة الدول المبتكرة في العالم. أما المرحلة الثالثة والأخيرة فتُخطط الصين لبلوغها في عام 2050، ذلك العام الذي تُكرّس فيه وجودها كقوة رائدة تتربع على قمة الهرمية الدولية.
للصين خطة تعمل بموجبها بطريقة تعديلية، وليس انقلابية، لتغيير وضعية مكانتها ودورها في النظام الدولي، وهي تقوم بتنفيذها بكثير من التصميم والحزم والصبر والامتثال. هذه هي المنهجية التي حققت للبلاد ما وصلت إليه من تقدم حتى الآن، ومن المرجح أن تبقى تسير على النهج ذاته في قادم الأيام.لن يأتي عصر ما بعد «كورونا» بالصين لتتبوأ مباشرة قمة الهرمية الدولية، ولكنها ستكون مع منتصف القرن هناك.