بقلم : عقل أبو قرع
لا يجادل أحد بأن العالم، بعد تفشي الوباء العالمي «كورونا»، ليس هو نفسه قبل ذلك، وعلى مختلف الأصعدة، السياسية والاقتصادية والصحية ومنظومة التحالفات والعلاقات والمصالح وغير ذلك، ونحن جزء من هذا العالم، الذي تغير وهو يتغير وسوف يتغير بسرعة لم يتوقعها أحد، ومع هذا التغيير الدراماتيكي غير المتوقع، تتغير الأولويات والترتيبات والمصالح، بدءاً من صفقة القرن والتي على ما يبدو لن تقوم لها قائمة في القريب العاجل على الأقل، ومروراً بحالة الانقسام الفلسطينية والحاجة الماسة الى إنهائها كما أوحت أزمة «كورونا» العابرة للحدود، وحتى علاقاتنا مع الجانب الإسرائيلي لن تكون هي نفسها قبل أزمة كورونا، حيث أظهرت هذه الأزمة، أنها لا تعرف الحدود أو التفاصيل الجغرافية الضيقة هنا وهناك.
ورغم أن الغموض والجهل ما زال يكتنف هذا الفيروس، سواء من خلال كيفية ومدى انتشاره، أو حول مدى فترة الحضانة الخاصة به، أي الفترة الممتدة من الإصابة بالفيروس وحتى ظهور الأعراض، حيث دلت أبحاث حديثة أن فترة الحضانة قد تصل الى حوالى 17 يوماً عند بعض المرضى الصينيين، ودلت دراسة أخرى على أن بقاءه في الخارج، على الأسطح والأجسام قد تصل الى يومين وربما أكثر من ذلك، وأن هذا الفيروس قد يتحور أو تحدث الطفرات فيه بسهولة، وكل هذه النتائج الأولية ربما تفسر ظاهرة الانتشار السريع والمخيف وغير المتوقع وعملية الاجتياح التي لم تسلم منها أي دولة حتى الآن.
ومع تبوء الولايات المتحدة المكان الاول في العالم من حيث عدد الإصابات الذي تجاوز حتى الآن حوالى الـ 85 ألفاً، ومع السرعة الهائلة في العدوى وحتى في عدد الوفيات في الولايات الأميركية المختلفة، ومع النقص الكبير في معدات طبية لم يتوقعه أحد من دولة عظمى مثل أميركا، ومع انتقال مدينة «نيويورك» عاصمة المال والقوة في العالم الى منطقة موبوءة وتنشر الوباء، ومع تفشي المرض في ولاية مثل ولاية كاليفورنيا التي يتجاوز الناتج الإجمالي القومي السنوي لها الناتج القومي لدول مثل الهند وبريطانيا، مع كل ذلك، فالولايات المتحدة لن تعود أو لن تكون كما كانت، سواء من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والنفسية، والأهم من التأثير السياسي وقيادة العالم والتحكم في القرارات والنفوذ، وما يجر ذلك من تغيير في العلاقات وفي النظرة وفي مراكز القوى، على مناطق ودول كثيرة، وبالطبع نحن منهم.
ومع انشغال أوروبا المأساوي، من إيطاليا الى بريطانيا مروراً بالنمسا والمانيا ذات الثقل الاقتصادي الهائل، في إحصاء أعداد الوفيات والإصابات وأعداد الفحوصات اليومية، وأرقام أجهزة التنفس المتوفرة، فقد فقدت أوروبا الصورة المنمقة المتحضرة التي كانت مسيطرة على عقلية الكثير من بني البشر، وبالتالي فقدت وسوف تفقد ثقلها الاقتصادي والسياسي ونظرة الناس اليها، والأهم سوف تضمحل النظرة الاستعلائية المتكبرة التي امتاز بها بعض دولها، وما لذلك من آثار سياسية واقتصادية وعلى منظومة العلاقات مع دول كثيرة، ونحن بالطبع من ضمنهم.
وليس بعيداً عنا، أي في الجانب الإسرائيلي، فقد أثبتت أزمة كورونا حتى الآن، مدى هشاشة مؤسساته في التعامل مع الأزمة، وأحدثت شقوقاً في ادعاء التفوق والجبروت ومقاومة الأزمات، وبالطبع فإن هذا سيكون له تداعيات على السياسة والاقتصاد وعلى العلاقات المختلفة، وبالأخص على العلاقات معنا. وبغض النظر عن المدة التي سوف تستغرقها الازمة الحالية وتشعباتها ومضاعفاتها، إلا أن الأولويات العالمية تغيرت وسوف تتغير، بدءاً من الصين الى الولايات المتحدة الى أوروبا والى منطقتنا وحتى الى بلادنا وعلاقاتنا الداخلية المتعددة، وبالطبع سوف يكون الاهتمام بالقطاع الصحي من الاولويات وفي كل بلدان العالم، وبالأخص في قطاعات صحية مثل الوقاية والتطعيم وزيادة الاموال من أجل الابحاث العلمية واكتشاف وتطوير الادوية، وفي التعاون من أجل حماية البيئة والنظام الحيوي وفي العمل من أجل الحد من التلوث، وفي تغيير أوجه الإنفاق المالي، وبالأخص الانتقال من الإنفاق على أسلحة تتكدس وجيوش لا تفيد في أزمات مثل هذه الأزمة.
وعلى الصعيد الفلسطيني، فهذه الازمة وحتى الآن، فقد أثبتت مدى أهمية الاستثمار في الإنسان الفلسطيني، سواء من ناحية التعليم والصحة والجوانب الاجتماعية والثقافية المختلفة، ومدى أهمية بناء أواصر الثقة معه، لأن الإنسان بحكم تكوينه للمجتمع، قد أثبت أنه القادر من خلال العمل الجماعي والتعاون على إدارة هذه الازمة بأقل الخسائر والتكاليف حتى الآن على الأقل، وأثبتت هذه الازمة مدى أهمية الاستثمار في الشفافية وفي منظومة النزاهة وتقوية التواصل والوضوح بين السلطة بمكوناتها والناس، ومع الأمل بأن نواصل التحكم في هذه الأزمة بأقل الخسائر وبأن نخرج منها أقوى، فهناك الكثير من الدروس التي من المفترض أن نركز على التعلم منها والاستفادة منها من أجل توطيد أسس دولة حضارية تقاوم الأزمات، والأهم من أجل تقوية مجتمع متماسك ملتزم متكاتف، لأنه هو الذي سيكون الدعامة لتلك الدولة القوية المنشودة.
قد يهمك أيضا :
فيروس كورونا ... وإمكانية اكتشاف دواء أو لقاح قريباً؟
فيروس «كورونا» وأهمية الاستثمار في القطاع الصحي!!