بقلم : ريما كتانة نزال
«كورونا» يقول كلمته
الحجر الصحي، الذي ألزم الجسد البيت، امتد بأثره إلى حَجْر الروح داخله، النأي بالجسد عما يزهقه، وحجز الروح عن احتياجاتها الإنسانية، لتنعم البشرية بالصحة والعافية. النأي بهما عن وباءٍ بلا أيّ حدود سياسية. الفيروس اللعوب ينتشر بطرقه الملتوية، يجوب المعمورة متباهياً باحثاً عن نصر واختراق كونيّ جديد. يَجول متباذخاً مُفسداً الاستقرار والأمان والهدوء، فارضاً معركة جديدة بين الكائنات البشرية والكائنات المجهرية، معركة ستغير مجرى التاريخ.
الكلمة الأولى «للفيروس» ومساراته المتوازية بعد أن فقد العالم مناعته، بلا فروق جدية بين القوي والضعيف، العالم بأسره أضحى مسرحاً لعملياته وتحولاته، يوزع عدالته بلا تمييز بين دول الشمال والجنوب، بين دول نظيفة وأخرى قذرة، ودول غنية وأخرى فقيرة، تاركاً توقيعه في المقابر. يأتي «كورونا» ليشير بقوة إلى الدول الرأسمالية التي واصلت تخفيض موازنات الأبحاث البيئية وموازنات التأمين الصحي لصالح مواصلة سِباق التسلح بشكل فاق الحدود المسموحة، وتخصيص المليارات للحروب الضارية، بينما العالم مهدد بالتصحر والجفاف والاحتباس الحراري والتغير المناخي وزلزلة توازن الطبيعة، ويموت الملايين من الجوع والفقر والأمراض والتلوث.
يقول كورونا: بات العالم بحاجة لمثل هذه الصدمة، عالم الفجوات الطبقية والاجتماعية والاقتصادية، وبهذه الرؤية فقد أثبتت الرواية التاريخية أن الأوبئة المأساوية قد قوضت هياكل وأخرجت من رحمها هياكل أخرى. وفي فلسطين يقول «كورونا»: إن عالماً يقف متفرجاً على الاحتلال الإسرائيلي في زمن «الكورونا» عالم غير عادل ، لا حاجة لإثبات عنصرية الاحتلال حيث يمارس أبشع أشكال التمييز العنصري بحق الأسرى، والشواهد غير خافية في كيفية التعامل مع الأمراض المزمنة.. وغموض التعامل مع الحالات المصابة بالفيروس، في الوقت الذي يقوم بتحصين المعتقَلين بالملابس الواقية أثناء ممارسته عملية الاعتقال لحماية جيشه، لا يوقفه الفيروس عن البطش الذي يتصاعد خط انتشاره البياني في دولة الاحتلال.
اليد عدوة صاحبها
لا تتحقق الوقاية سوى بالحجر والتباعد الاجتماعي والعزلة، النأي بالوجوه عن الأيادي. تترأس اليد قائمة أعداء البشر في مواجهة «كورونا»، ممنوعة من ملامسة الوجه، ممنوع عليها المصافحة، الوقاية تقتضي غلّ اليد إلى العنق، البخل في إظهار الودّ وإيصال المشاعر، وإلا تضخم الكَرْب وزادت الفوضى وغاب الهدوء والطمأنينة والثقة. للفيروس وجهان: وجه يستلزم التضامن والتكافل وأن يكون الجميع للجميع، حَجْر الجميع من أجل الجميع، مسؤولية الجميع عن سلامة الجميع. ووجه آخر يستلزم الانفراد والانعزال عن الجميع، المريض مسؤول عن مرض الجميع.. منع التلامس والترابط الاجتماعي وتنحية هرمون الترابط «الأوكسايتوسين» ووقفه عن العمل.
في لحظة كتابة الخواطر، وصل عدد المصابين بالفيروس إلى 284 ألفاً حول العالم، يعود معظم أسباب انتشاره إلى مدى ومستوى التزام الأفراد وسلوكياتهم غير المتوقعة في تلك اللحظة. وفي فلسطين، بعد اليوم العشرين لوصول الوباء، بلغ عدد الإصابات 52 إصابة وتعافت 17 حالة، يعود جميعها إلى عدم الالتزام والانضباط، بمعنى آخر، لا أحد يعرف ماهية النوازع والسلوكيات التي تتحكم بالأفراد بما يؤثر على مستوى توسيع دائرة الانتشار.
هل يغيّر «كورونا» الأنماط والسلوكيات
تاريخ الأوبئة والجوائح يقول: إنها هزت قِيَم المجتمعات. ليس من عاقل يعتقد عكس ذلك، جميع الحروب ساهمت بتغيير الأنماط والسلوكيات والقواعد، بعضها عبر الاتفاقيات والمعاهدات والشرائع كما وقع بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. فلسطين لن تشذ عن القاعدة. لا بد أن تحدث أزمة «كورونا» تغييراً في بعض الأنماط والممارسات الضارة، في الوقت الذي سيعمل البعض بقوته لضبط عملية التغيير بما لا يمس الأنماط الاجتماعية.
وعليه، سأنتقي ما شدّ الانتباه. البعض يعتبر أن الأنماط والثقافة الرجعية كانت فاعلة قبل الوباء وستبقى مفاعيلها بعده، لجهة قضية المرأة على سبيل المثال. فالحكومة الفلسطينية أخذت قراراً خاصاً بدوام الموظفين والموظفات استناداً إلى مذكرة مقترحة من وزارة المرأة، مفادها إعفاء شرائح من الموظفات الأمهات لأطفال صغار من الدوام، داعية إلى مشاركة أزواجهم المسؤوليات في الرعاية للأطفال ما فوق سن السابعة، ووضع برامج دوام تحدُّ من تنقل الموظفات بين المحافظات.
ومن وجهة نظري، أن المذكرة ليس بإمكانها أن تقدم البديل الحقوقي على قاعدة المساواة بسبب ثقافة حصر مسؤولية الرعاية الوالدية بالنساء، لكن لا بد من عدم التهاون بتسجيل وتوثيق مسؤولية النساء في حماية المجتمع من توسع انتشار المرض، وهذا ليس بكلام إنشائي، بل توثيق مرحلة تقاس تكلفتها اقتصادياً وصحياً ونفسياً، وتوثق رقمياً وعددياً، ولنتذكر دائماً أن أحد المستندات المهمة، التي تسوغ إقصاء المرأة عن العمل، أو حصرها في أدنى مستويات الوظيفة، أو حرمانها من الترقيات والمناصب والتذرع بظروفها الخاصة ومسؤولياتها الخدمية في البيت، هو المستند الثقافي الذي يبرر تقسيم العمل بين المرأة والرجل، ويحمِّل عمل النساء مسؤولية البطالة، ويكرس الثقافة الذكورية السائدة.. فماذا نحن فاعلات؟
قد يهمك أيضا :
إلى متى انتظار قانون حماية الأسرة من العنف؟
على هامش يوم المرأة العالمي