يبدو عنوان المقال مستغرباً بعض الشيء، فمتى أصبح «كورونا» وراءنا لنفكر في ما هو أمامنا. ولكن، بعد خمسة أشهر من غزو الوباء فلسطين لا بد من رؤيته من خلال انعكاساته على الحياة الجمعية والفردية، وكذلك من خلال تأثيراته على الواقع والتبعات التي مَسّت الأمن الإنساني والاجتماعي والاقتصادي، وكشفت عن عورات ونواقص في النظم السياسية.
ليس بأيدينا، لقد أحدث الفيروس التاجي ومتطلبات الحجْر المنزلي ضرراً كبيراً بالمصالح المختلفة، وعلى رأسها المصالح الاقتصادية الرأسمالية وتناقضها مع مصالح الطبقات الفقيرة، ولم يدّخر أصحاب رؤوس المال جهداً لعودة الحياة الطبيعية في جميع أرجاء العالم، فحققوا الانتصار الساحق على الإنسانية.
مع التجارب القاسية تأتي الدروس والعبر، والأمر يسري على التجربة النسائية والتبعات الخاصة التي لحقت بالنساء حول العالم. حيث تضاعف الجهد المبذول من قبل النساء في الأعمال المنزلية والعناية بالأطفال ورعاية الرجال، تحت عنوان الحماية وتدبير المنزل، ما زاد من استغلال جهد النساء، وضمن استمرار ومأسسة إعادة إنتاج استغلال المرأة وترسيخ دورها في الحيز الخاص.
في محصلة التجربة، خدم تقسيم العمل النمطي سياسة ضَبْط التطلعات النسوية المشروعة في المساواة على كافة الصُعُد، واستُغَلَّت الجائحة في خدمة استمرارية آليات الهيمنة والسيطرة وتوارثها داخل إطار الأسرة، الضامنة لاستمرار التمييز القائم على الثقافة الذكورية. كما حرص البعض أكثر على استخدام تقسيم العمل لأغراض إستراتيجية ذات أبعاد عقائدية وتقليدية تقوم على أساس وضع النساء في كتلة متجانسة لتوظيفها في تخصيص أدوارهن ووجودهن ضمن المساحة الرعائية والخدماتية، وإلغاء التعددية والتنوع بين النساء والاختلافات في نظرتهن لأنفسهن وأدوارهن.
لقد تمخض تقرير العنف خلال الموجة الأولى لـ»كورونا» عن نتائج ومعلومات تشير بشكل واضح إلى أن العنف الأسري قد ارتفعت معدلاته مقارنة بذات الأشهر من العام الفائت، وهي أرقام موضوعية كونها جُمعت من قبل المؤسسات القاعدية.
لقد رصدت فلسطين ما تعرضت له المرأة من أشكال العنف الأسري، ورصدت المؤسسات النسوية والحقوقية الأثر الاقتصادي خلال الجائحة، بزيادة البطالة والفقر، خاصة الفقر المؤنث في قطاع العاملات في المنازل وفي الزراعة والمصانع والبائعات المتجولات والقطاع الخاص والاستغناء عن العمالة النسوية، ما يذهب إلى تكريس النظرة إلى عمل المرأة ووضعه في إطار العمل الاحتياطي أو النيابة عن الرجال.
رصدنا تأثير الحجْر المنزلي على المشاركة السياسية والعامة الذي كشف أيضاً عن ضيق خيارات النساء، حتى القياديات مثل عضوات المجالس المحلية، بوضعهن بين ثنائية المفاضلة، بين متطلبات الحماية والرعاية المنوطة بهن وبين انخراطهن في لجان الطوارئ والعمل المجتمعي، دون التقليل من مظاهر تتعلق بالإقصاء الذكوري من قبل القائمين على القرار وتحجيمهن ضمن مظاهر رمزية وديكورية تشكل غطاء للإقصاء والاستثناء من العمل العام.
على التجربة الملموسة المرتكزة على المؤشرات نبني، واجباتنا وخططنا تجاه التغيير المطلوب على أساليب العمل المستقبلية وعلى الأولويات وعناصر تجديد الخطاب النسوي. وكمساهمة أولية لا تنسب لنفسها الشمولية، لا بد استيعاب أن تجديد الآليات والأساليب يجب أن يعالج العمل مع أصحاب القرار من جهة بمن هم حكومة وأحزاب، وكذلك لطبيعة التغيير على الخطاب الذي نوجهه للمرأة عموماً.
أولاً: الأولوية التشريعية:
لقد ظهرت أشكال من التغول في تكريس علاقات الهيمنة والسيطرة تم لمسها من خلال الهجمة الأصولية على الحركة النسوية خلال الجائحة، حيث شكلت لهم فرصة ذهبية للانقضاض على المكاسب وإغلاق الباب أمام حراكات مجتمعية تطالب بإصدار القوانين ذات العلاقة بالأسرة والمرأة، وتمكنت من تحقيق نجاحات في وضع قانون حماية الأسرة جانباً. الأولوية التشريعية يبغي الإمساك بها بإحكام من أجل تحصين حقوق المرأة بالقانون، لأن تغول المتطرفين قد وصل إلى اعتبار المساواة كأساس تشريعي يصطدم بالنصوص الشرعية.
ثانياً: المشاركة في مراكز القرار
لا بد من طرح السؤال: حول المدة التي تتطلبها الحكومة لتطبيق تخصيص 30% من مقاعد بنى الدولة للمرأة، والإرادة السياسية التي تحوّل قرار هيئات مرجعية كالمجلس الوطني والمركزي إلى مرسوم رئاسي يتم نشره بالجريدة الرسمية.
لقد طال الانتظار، ما يبرهن على نقص الإرادة السياسية في تطبيق قراراتها المتبناة من قبلها، فكيف الحال مع باقي مطالب الحركة النسائية بخصوص تعديل قوانين الانتخابات.
هذه الأسئلة مطروحة على الأحزاب السياسية التي تستمر في الإشاحة بوجهها عن التزاماتها باتجاه مسؤوليتها إزاء قواعدها وباتجاه مصداقية برامجها.
ثالثاً: تجديد الخطاب:
مواجهة النساء الأعباء الكورونية المتعلقة بالحماية والرعاية عبر إيجاد التوازن بين مسؤولياتها الوظيفية والمنزلية في حال كونها عاملة ومتطلبات العمل عن بعد. لقد رضخت ربة البيت لقدرها في تدبُّر أمرها وزيادة جهدها الرعائي، بينما كان عليها أن تصنع وتفرض طريقاً حوارياً مع الأسرة تُرَسِّخ فيه مبدأ الشراكة في العمل المنزلي. فما الخطاب الذي ينبغي تقديمه لجمهور النساء من أجل إيجاد التوازن في تحمل الأعباء والخروج من دائرة مسؤولية النساء الحصرية عن العمل المنزلي؟
في الختام، لا بد من اقتناع المؤسسات النسوية بكافة تلاوينها، أن الأحداث الكبيرة التي تنعكس بآثارها على المجتمعات وتخلط الأوراق بمثابة النقطة الفاصلة التي تقدح شرارة التغيير. والتاريخ يشهد على ذلك، ففي الحرب العالمية الثانية عندما ذهب الرجال إلى الحرب بدأت الحركات النسائية تخرج من إطار ومفهوم الاحتياط الذي يتم الالتفات إليه وقت الطوارئ.
كذلك وقع الأمر في فلسطين، عندما دفعت النكبة الفلسطينية قبل أكثر من سبعين عاماً كحدث مأساوي يفوق الوصف، إلى وقوف الأسرة الفلسطينية مع بعضها البعض وتعزيز الترابط الأسري، عندما حملت المرأة مع الرجل تبعات النكبة وتداعياتها، وجعلت التعليم أولوية للأبناء والبنات لحماية الأسرة من العوز والحاجة.
قد يهمك أيضا :
نحو مقاضاة المتنمرين على المدافعات والمدافعين
عن اليوم المفتوح مع منسق عملية السلام