ما أن تدخل المكان، حتى تمتلئ باللون الذهبي، وحين تنظر نحو القبة، تصافح عيونك الحروف العربية التي تتدلى بجمال، فتقول تلك حروفي الجميلة، وتتذكر ما قاله محمود درويش يوما «أنا لغتي».ذهب، هو الشعر من ذهب، وهو هنا، يوزن بما هو غالٍ، وبما أكثر حين يتم نقل الرسائل السامية، ولعل تشجيع الشعر والشعراء يصبح فضيلة بما يحُث الجيل الجديد على التعبير والإبداع.جميل أن نشهد محبة اللغة العربية، والشعر، وجميل هنا أن تحضر العروبة بكامل جمالها؛ هنا في قصر الشعر، في أبو ظبي الجميلة، نشهد دوماً، تعانقاً رائعاً ما بين الشعر كجمال أدبي، مع جماليات التكنولوجيا، لتكون رافعة فعلاً لتقريب الشعر من الجمهور العربي، فثمة ملايين منا نشهد ونشاهد، لبضع برامج جمعت الأسرة العربية على الشاشة الفضية في ظل ما نتعرض له من تشتت بصري وسمعي.
يتقدم الشاعر المتسابق، ليلاقي لا الجمهور الكبير أمامه، ليجد نفسه أمام الملايين، وهو الفتى الشاب المعروف في وسطه الصغير، فكأنه هنا يمتلك شجاعة المواجهة، من خلال كلماته، لذلك فإن الأمر الملاحَظ هنا، أن الشاعر يبدو كالمبدع المسرحي الذي طال تدربه للوقوف على خشبة المسرح؛ فهو يدخل من خلال الإضاءة والموسيقى، مطمئن قسمات الوجه والجسد، رافعاً ذراعه، كأنه يتذكر شعراءنا الأجداد، أو يتخيلهم، محاكيا التراث العربي في التواصل والاتصال، وحين يقترب يصافحنا بكلمات شعره قبل اكتمال الوجه، حيث يصير الشعر هويته ومعناه، وبحروف ظاهرة، نستمع مصغين لما يحيينا به، مادحاً، على عادة الشعر العربي العمودي، ومبدياً فخره، ومحبته، كسلام للجمهور ولجنة التحكيم، فجميلة فعلا تلك التحيات الشعرية.
في شاعر المليون في حلقته التاسعة، على مدار تلك الدورات، تبلورت لدى رعاة البرنامج ولجنة التحكيم معايير أدبية، الملاحظ فيها والمثير نقدياً هو أنه ارتقت للتعامل مع الشعر الشعبي تماماً مع الشعر الفصيح، ولعل ذلك يذكرنا بما كتبه شيخ النقاد العرب د. صلاح فضل في كتابه «شعر العامية.. من السوق إلى المتحف»، والذي أعاد الاعتبار الأكاديمي للشعر الشعبي بمختلف أنواعه، بعد أن فرض شعراء العامية وجودهم الإبداعي وطنياً وقومياً وإنسانياً، بل لعلهم كانوا الأقرب للجمهور بما كتبوا فيه من مواضيع تنتصر للأوطان والمشاعر الإنسانية، والنقد الاجتماعي والسياسي.
يعدّ الشعر النبطي الأقرب للهجة البدويّة، لكنه يتميز أكثر بكونه مفهوماً من قبل الشعوب العربية، كونه يقترب من اللغة الفصيحة.في «شاعر المليون» الحلقة التاسعة، المسرح للشعر، والقاعة للجمهور ومعهم متابعو الشاشة، وبينهم لجنة التحكيم، فعلى غرار د. فضل وآخرين، فإن د. غسان الحسن من الأردن الشقيق أحد أعضاء لجنة التحكيم هو أحد الأكاديميين العرب المتخصصين في الموضوع، يجلس متوسطا الباحث والروائي سلطان العميمي، مدير أكاديمية الشعر في أبو ظبي، والشاعر حمد السعيد، فيما يؤازرهم عضوا اللجنة الاستشارية للبرنامج، وهما: الشاعر بدر صفوق والشاعر تركي المريخي. ومعروف أن هذا البرنامج تنظمه لجنة إدارة المهرجانات والبرامج الثقافية والتراثية بأبوظبي، في إطار استراتيجيتها الثقافية الهادفة لصون التراث وتعزيز الاهتمام بالأدب والشعر العربي.
ومرة أخرى يسعدنا فعلا التأكيد على معايير الإبداع التي تمحورت بين الاهتمام بالجماليات والموضوع، أي الشكل والمضمون، لقد أبدع شعراء «شاعر المليون» في الإنسانيات والموشحات وأبدعوا في الرثاء.
أما معايير المنافسة في هذه المرحلة فكانت وفقا للأستاذ سلطان العميمي: في المعيار الأول، يقوم الشاعر بإلقاء قصيدة لا يقل عدد أبياتها عن ثمانية أبيات ولا يزيد عن عشرة، ويحق للشاعر اختيار الوزن والقافية والموضوع، وفي المعيار الثاني يجاري الشعراء في كل أمسية نمطاً من أنماط الموشحات الأندلسية الذي تقوم باختياره لجنة التحكيم. أما المعيار الثاني من التنافس ضمن المرحلة الثانية، فيكون بنظم قصيدة المجاراة للموشح على وزنه وقافيته، وأنّ المطلوب من الشعراء مجاراة الموشح طوال النصف الأول من الحلقة، ليلقوا قصائد مجاراتهم في النصف الثاني من كل أمسية.
مقدمان للبرنامج، مقدمة ومقدم يمتلكان الحضور، ويبدو عليهما لطول عشرتهما مع الشعر والشعراء، قد نالا من الشعر ما نالا، فصارت جملهم شعراً، حيث بثُّ الأمسية على قناتي بينونة والإمارات.مع بداية فعاليات الأمسية من الموسم التاسع للبرنامج الأول للشعر النبطي، «شاعر المليون» ردد مقدما البرنامج الإعلاميان أسمهان النقبي وحسين العامري أبيات شعر، من روائع أشعار الراحل الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والتي تحمل في رمزيتها الشعرية إشادةً بالمكان الذي ارتبط باسمه مسرح شاطئ الراحة، ليكون منبراً للشعراء ومسرحاً للإبداع الشعري:
«يا شاطئ الراحة ويا شاطئ الزين
القلب بك يلقي غرامه وراحه
ييتك وقرّت من بعد شوفك العين
وانسيت بك همّ الزمان وجراحه»
تتقاطع فنون الفرجة والاستماع في البرنامج بين الشعر، وبين المقابلات مع الشعراء التي تبث من خلال فيلم فيديو، حيث يمنح ذلك بعدا حميميا، خصوصا أن ذلك كله يتم وسط مسابقة، سيمتلك الفائز فيها الجائزة الكبرى-المليون، وصولاً إلى تفاصيل المنافسة المحتدة بين شعراء الأمسية السابقة.ومعروف أن هناك ترتيبا معينا تسير بموجبه المسابقة، ولكن من خلال الاستماع لشعر المتنافسين، ومن خلال المقابلات التي أجريت معهم، تبين أن هناك فعلاً موضوعية في الاختيار، كما لفت انتباهنا أيضا حضورهم الاجتماعي وصراحتهم، في العديد من الأسئلة الموجهة لهم.
وضمن منافسات الأمسية التاسعة والأولى في المرحلة الثانية من البرنامج، استمتع الجمهور في المسرح وخلف الشاشات بحضور أنيق للشعراء: أحمد عايد البلوي وعناد الشيباني وعبد المجيد سعود الغيداني من السعودية، ومحمد الشريقي من سورية، ومزيد بن جعدان الوسمي من الكويت، وناصر بن خميس الغيلاني من سلطنة عمان، والذين تنافسوا في تقديم روائعهم الشعرية أمام أعضاء لجنة التحكيم وجمهور الشعر.ولعل أحدى الإجابات والتي تتعلق باختيار الشعراء لمواضيعهم، تدل على أنهم يختارون كشعراء ما يتفق وتوقعات الجمهور، حيث إنه بالرغم من أهمية المواضيع العامة، فإن من الضروري تشجيع الشعراء للاختيار الحر لمواضيع تخص أفكارهم ومشاعرهم في هذه الفترة العمرية، حيث لم نستمع مثلاً لنص غزلي وعاطفي.
من مواضيع الحلقة رؤية الوطن مثلها أحمد عايد البلوي من السعودية المتسابق الأول مع قصيدته الحكمية التي عبرت عن موقف الشاعر من رفض التخلف والركود، والمضي قدماً إلى الأمام بهمة وعزيمة، كذلك كان الشاعر عناد الشيباني.أما فقد الأب، فمثلها الشاعر السعودي عبد المجيد سعود الغيداني في «فقد الأب» المتميزة بصدق المشاعر، وجماليات التصوير. تلاه المتسابق الرابع محمد الشريقي من سورية الذي ألقى قصيدة الأمة العربية في أوجاع دولها التي نحا فيها منحى رمزياً.
لفت انتباهنا الشاعر الكويتي مزيد بن جعدان الوسمي في قصيدته التي جاءت في وصف المكانة العلمية للبخاري وصحيحه الذي يستمد مكانته من الأحاديث النبوية الشريفة التي جمعها وعمل على توثيقها. أما سادس شعراء الأمسية فكان العماني ناصر بن خميس الغيلاني في رثاء السلطان قابوس بن سعيد، «بخصوصية مفرداته الشعرية ذات الصلة بالبيئة العمانية دون سواها، وتحمل هوية الموضوع المرتبط بالمكان والرموز الوطنية والأرض، بمخيال ووضوح مع خروج على التكرار والتقليدية والمباشرة وانتقال سلس، جعل من النص كتلة جمالية متكاملة».وأخيرا بإطلالة للفنان البحريني الكبير أحمد الجميري، في رائعة «شويخ من أرض مكناس»، من كلمات الشاعر الأندلسي أبو الحسن الششتري، وألحان الفنان خالد الشيخ، وهي من التراث الزجلي الأندلسي والموشحات باللهجة المغربية