باتت العودة للأصول مهمة جداً في حماية الأفراد والجماعات والشعوب؛ لضمان السلامة الصحية والأمن الغذائي، «الطحين والزيت سبعين في البيت»، وضمان استمرار التعلم والتعليم والتثقيف. وأظن أن للفرد دوراً مهماً، كما لواضعي السياسات.
تشكل هذه الفترة ربما مجالاً لتحصيننا في المستقبل الذي لا ندري ملامحه بشكل دقيق، لكن المهم لنا والأكثر وضوحاً هو البقاء.
البقاء الإنساني الوطني الجميل والمعافى، وأظن أن توفير مقومات ذلك، تقع ضمن الإمكانيات، لو تأملنا بعمق، حتى نعبر هذه الجائحة.
وحتى نعبرها صحياً وفكرياً، لا بد من القناعة الفردية بإجراءات السلامة، وألا يكون عدم الوضوح أو الحيرة، مجالاً للتشتت والفرقة، حيث من الأسلم ترك الأمور للمختصين/ات.
نحن قادرون وقادرات، خصوصاً أننا نعيش كما يبدو اختباراً للمستقبل، والذي تشكل النزاهة والوحدة والوضوح والتضامن مقومات ضرورية للانطلاق للغد.
في طفولتي، لم نكن نسلم بالأيدي إلا في العيد، وعلى الضيف من خارج قريتنا، وعلى القادم من سفر، وكان يصاحب ذلك قبلة على يد الكبير أو الكبيرة، وقبلة على خدودنا منهم، وغالباً ما كنت أمسح مكانها أو أغسل وجهي ولكن بذكاء دون انتباه المقبّل أو المقبّلة. وكبرت، وعلى الرغم من تغير العادات، إلا أنني بقيت في اللاوعي متأثراً بعاداتي القروية.
وكنا أيضاً نعظّم الخبز، حتى إذا وجدنا «قسمة»، كنا نحملها بخشوع ونقبلها ونضعها في «خزق» في جدار. وحتى لا أطيل في سرد عاداتنا، فإنني سأختصر الكلام، وأقول: إنه لم يتغير في حياتي لا القليل ولا الكثير، في زمن «كورونا»، فالتزام البيت متعتي للقراءة والكتابة ومشاهدة الأفلام والمسلسلات القديمة، حتى تلك التي شاهدتها من قبل، مثل «الشهد والدموع»، و»الأيام»، سيرة طه حسين.
وجميل أنني وجدت وقتاً لذلك، حيث تعيدني المشاهدة إلى الطفل والفتى الذي كنتهما، في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، فرحت أتذكر تلك الأيام من حياتي، «فأموضع» نفسي زمنياً ومكانياً، فأشاهد المادة الدرامية من جهة، وأشاهد نفسي ومحيطي من جهة أخرى. وأجدها فرصة لتأمل تلك الأعمال، من وجهة نظري ككاتب أيضاً؛ ففي ذلك الزمن كنت أركز على قصص الحب في الدراما، دون الانتباه الواعي للتحولات التي تحدث.
خارج البيت، لي هذا الفضاء الكبير الواسع، في كرومنا في جبال القدس، حيث لا ينطبق علينا حظر التجوال، وهناك أمارس الأعمال الزراعية فيما يتعلق بشجرة العنب، سواء بالتقليم، أو الحراثة، و»البحاشة» التي تعني نكش الأرض خصوصاً حول سيقان الشجر، وإزالة الأعشاب من حولها، كونها تتغذى على حسابها. والتقليم، أشبه بعملية التحرير. ذهب الشتاء والربيع وجاء الصيف، ونحن ما زلنا ندور حول أشجار الكرمة.
ثمة متابعة للورق والعنب معاً، و»توريق» من الداخل لكي يسمح للهواء والشمس بالدخول، وفقط نستريح مع آخر العناقيد التي «تدلت كثريات الذهب»، كما وصفها جبران في المواكب.
كل العملية على أرض تشبه عالم الإنسان.. الأمور رمزية، نستطيع إيجاد وجوه الشبه بين كل تفصيل زراعي وحياتي معاً.
فترة عملي في الأرض خصوصاً في كل الفصول تمنحني لا الرشاقة واللياقة كمعادل موضوعي لما يصيبني من طول المكوث على الكرسي في المكتب، في عملي والبيت، بل أيضاً تمنحني التأمل والتفكير، وأكثر ما يثيرني دوماً تحولات الحياة، فتراني أدندن وأغني «منين يجينا الشجن» كلمات الشاعر سيد حجاب التي كانت التتر في المقدمة والنهاية لمسلسل «ليالي الحلمية» الشهير.
لذلك، أكان منطلق ذلك هو الوعي، أو الوفاء لوالدنا ووالدتنا، واصلنا الإخوة بعد تكوين أسرنا النووية، اهتمامنا بالأرض، ولا نقصّر بها، فقد ارتبطنا بها، ولها الفضل ولسواعد والدي في تربيتنا وتعليمنا، وتحقيق الاكتفاء الذاتي. كثير من الوهم عشناه من خلال التحولات التي أصابت فلسطين المحتلة ما بعد اتفاق أوسلو، خصوصاً في تراجع الاهتمام بالأرض والزراعة، بل صار الإسمنت سيد الموقف على حساب الزراعة، إضافة إلى سلوك غريب طرأ على مجتمعنا، والمفروض أنه مجتمع وطني، ألا وهو بيع الأرض زهداً بها، وطمعاً بالمال جرياً وراء الاستهلاك، والحمد لله أن نصيب قريتنا كان قليلاً، حيث ما زالت الجبال هنا خضراء مزدانة بالشجر.
بعد مرور بضع سنوات شعرت أن البوصلة تغيرت، وتم إلهاء الناس، وإشغالهم بما هو ليس أولوية، فظهر قطاع الخدمات الوهمي، والتجارة القائمة على الاستيراد بقصد تعميق ثقافة الاستهلاك، فصرت أرى الكثير مما لا ضرورة له، بل حتى صرت أشهد استحداث وظائف هي بالنسبة لنا ترف لا ضرورة له، وتراجع اهتمام الناس بما هو ضروري لبقائهم خاصة تحت الاحتلال، فكتبت كغيري، ولكن للأسف كان التيار أقوى منا، لكنني حتى هذه اللحظة ما زلت أكتب من أجل البقاء، وتلك رسالتي لا ككاتب فقط، بل كمواطن ومزارع وإنسان. وللأسف تم توظيف تكنولوجيا المعلومات توظيفاً سلبياً، أثر على الكثير من جوانب الحياة.
نحن من جيل عرف قيمة الأشياء، وأدرك أهمية الأرض، والزراعة، لتظل خضراء نعيش من خيراتها، ونحميها من خطر الاستيطان، لذلك فإننا لم نصطدم بـ»كورونا» ومتطلباته، ولم يشكّل لنا صدمة، فقد كنا مدركين لزراعة الوهم وتصنيعه، لتحصد الشركات العابرة للبلدان الربح.
في زمن «كورونا»، يزداد يقيننا بأهمية الإنتاج، ونتذكر مقولة جبران: ويل لأمة تأكل مما لا تزرع..»، وتتعمق أسئلتنا حول شروط البقاء: هل كانت كل هذه العادات والأشياء مهمة لبقائنا؟ هل آلاف بل عشرات الآلاف من هذه الوظائف مهمة؟ ولو كانت كذلك، ما بال القائمين عليها، في معظمهم في البيوت، «لا شغلة ولا عملة»، فلم يكن الجيش البيروقراطي مفيداً، بل استنفذ معظم الموازنة، وصار أكثرهم أقرب للفقر.
أما العمال الفلسطينيون داخل مناطق 1948، وفي المستوطنات المقامة في الضفة الغربية، سواء من يعملون في الورش وبناء البيوت أو في المزارع، فقد تم الكيد لهم منذ العام 1967، حينما تم إغراؤهم، فتحولوا بالتدريج من مزارعين وفلاحين إلى عمال بروليتاريا لدى الاحتلال.
هذا كفلسطيني، وكعربي، فإن «الحال من بعضه»، ولا أظن أننا كنا بحاجة لـ»كورونا» أو ما يشبهه، ولا أظن أن ما نعيشه اليوم سيصير ضمانة للمستقبل، للأسف «سترجع حليمة لعادتها القديمة»، وستواصل الشركات الكبرى في العالم، والحكومات التابعة لها، إحكام السيطرة، بل التغول في ذلك، بمبرر أنها من خلصت العالم وشعوبها من المرض، وستجد في ذلك فرصة ذهبية لتجديد شرعيتها.
فهل هناك جدوى من الكتابة؟ الجواب نعم، وسنستمر وتلك هي رسالتنا قبل «كورونا» وخلاله وبعده: خلاص الشعوب، لا خلاص الشركات، الخلاص الوطني، لا خلاص النخب.
قد يهمك أيضا :
"كما يليق بحبك" لعلا برانسي قسيس: الوطن والمصير والذاكرة
«كلب الست» و«كوميديا الأيام السبعة» والجماليات الناقدة فكرياً وسياسياً