- دائرة؟
- أو مثلث!
ونحن ننفعل متأثرين بشكل خاص وشخصي جدا، نشاهد ما يحدث للآخرين، ونتأثر بردود أفعالهم، أكانت صحيحة أم غير ذلك، وصولا لرصد العام، الوطني والعالمي، عبر مستويات مختلفة ومتنوعة من الالتزام والمسؤولية الشخصية والاجتماعية والوطنية والإنسانية، يزيد ذلك أو يقل:
أما الالتزام المتعلق بالجانب الشخصي، فهو مرتبط بحالة السلامة الصحية، والشعور الآمن بتوفر الحاجات، وهي متنوعة، تبعا للأولويات، من طعام وشراب وبيت وأمن ومشاركة الآخرين، وحاجات ثقافية أيضا، من أدب وفنون. وبالمجمل فإنه مرتكز على الخلاص الفردي، والأسري.
ويمكن أن نقيس ذلك، على الجانبين الاجتماعي والوطني العام، باعتبار أن الفرد وأسرته جزء من هذا المحيط، حيث يجد نفسه في الوعي الشعوري، متضامنا معه بما يستطيع، وهنا سيحدد هو حجم الاستطاعة، من تقديم شيء لا يحتاجه، إلى شيء عزيز عليه، إلى تقديم هذا العزيز ليأخذ صيتا وفخرا، يتغنى به الشعراء والإعلام، وتخفض دائرة الضرائب شيئا عنه.
ربما يصعب تقديم العزيز علينا، لكن التضامن الإنساني يخلق ذلك الشعور الداخلي، فترى الإنسان كما يقول التاريخ والميثولوجيا والأديان، يقدّم ما لديه كله أو نصفه، أو بعضه؛ وهكذا نتذكر مثلا الصحابي عثمان بن عفان في عام وغزوة العسرة، حين جهّز نصف الجيش وقد وثقتها الآية الكريمة «لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَة»، كما نتذكر زكا العشّار الذي شعر بشيء ما لديه، حين رأى زكا أن هناك مجالا لخلاصه والناس معا، وقصته في أريحا مع شجرة الجميز معروفة، حين ارتقاها لقصر هامته ليراه المسيح عليه السلام. ربما من المؤكد انه كان هناك مونولوج داخل نفس زكا، خاصة ان السيد المسيح قد ناداه باسمه، «إذا كان المسيح يعرف اسمي فمن المؤكد انه يعرف سمعتي». لذلك استجاب زكا مباشرة لمحبة المسيح غير المشروطة بقوله: «يا سيد، ها أنا اعطي نصف أموالي للفقراء، وإذا كنت قد غششت أحدا فإني أرد له أربعة أضعاف المبلغ».
وكأنني بزكا، من خلال لغة وثقافة عصرنا، قد التقط اللحظة التاريخية، التي ستغير حياته من النمط الرأسمالي الليبرالي إلى النظام الاشتراكي. ومثل زكا هناك ما يقدّم للمجتمع من منطلق مفهوم المسؤولية الاجتماعية، لجسر الهوة بين الفقراء والأغنياء، وفي ذلك جملة تفاسير صادمة أحيانا، تتعلق بخلاص المقدّم، كي يستمر الحال، لأن مزيدا من الضغط والفاقة، سيدفع الجموع، إلى بيت العجوز كما في قصة القرويين الذين لجؤوا عنوة الى قصرها، بسبب العاصفة الشديدة، بما فيها من دلالات إنسانية حول الخلاص والبقاء: الحد الأدنى للبقاء، وهو ما يقبله الفقراء، المعروفون والمستورون، والمتعففون. ويمكن أن يكون دعم المؤسسات الدولية الإنسانية، هي من منطلق هذا التوازن.
وما زلنا بالطبع نتحدث عن حادثة آنية، هي «كورونا»!
أما المسؤولية الإنسانية تجاه العالم، فلا تبتعد كثيرا عما ذكرنا، أما دفع استحقاقاتها، لدى الدول، فهي تتفاوت ما بين تنظيم صلاة وأدعية للنجاة، وبعث جسر جويّ بإمدادات دعم، وهو إما عن تضامن إنساني منزّه عن الأغراض، أو لمصالح وتحالفات جديدة، أو دعاية دولية.
كل بما وهب ويهب:
كل وخلاصه، كل بما وهب من إمكانيات ومشاعر، وما اكتسب من صفات لها علاقة بالتنشئة، ولعل النظرية التربوية عن السلوك المكتسب تفسّر ذلك.
وكل ما يهب نفسه، فردا كان أو دولة، تلك هي النظرية السلوكية، التي ترى في الفرد مجالا للتغيير.
ولربما ليس هناك تناقض بينهما كما اختلف علماء التربية والاجتماع؛ لأنهما فعلا متحققان، ويمكن البناء على ما تم اكتسابه إيجابا، ليصبح أنجاها لدى الآخرين، ومن البيت والمدرسة تكون البدايات.
- وأخيرا، تكون الدائرة..
ونحن ننفعل شخصيا ووطنيا، ونعي المسؤولية، فإن عيننا لن تبتعد عما كان من حوادث هنا في الأمكنة في أزمان مرّت. بل أن أهم حلقات ومراحل التاريخ الشخصي والاجتماعي والعام، هو في رصد اشتباك الإنسان والجماعة والنظم مع الجائحات على اختلافها، من أمراض وحروب، والحروب والنزاعات لعلها في زمننا هي الأكثر حصدا لأرواح البشر.
«التاريخ يعيد نفسه».. ترى من قال العبارة هذه؟ في أي مكان وزمان وحادثة قيلت؟
وهكذا صرنا نكررها في الحالات المشابهة.
فهل التاريخ هو ما يعيد نفسه، أم أننا نحن البشر، من نعيد إنتاج سلوكنا، وفقا لمصالحنا المشروعة وغيرها؟
كتاب الرواية والقصص الذين كانوا يشهدون ما يدور حولهم في مثل ظروف وتحولات كهذه، لم يكونوا في أريحية ليكتبوا مباشرة وبصراحة عن الآن، فاستدعوا التاريخ وكتبوا روايات تاريخية، أو «طعّموا» كتاباتهم به.
وباء، هو كذلك خاصة في سرعة انتشاره وخطره على نسبة من البشر، ولأن الروح مقدسة ينبغي حماية تلك النسبة، لذلك فإن المسؤولية تقتضي أن نحسب لا عدد كلماتنا، بل تجليات الكلمات.
وفي البال، أوديب الذي أنفق قسطا من عمره قلقا لمعرفة الحقيقة، وحين وصلها لم يحبها، فقد كانت صادمة؛ ففي عالم البشر، عوالم الحكام والمحكومين، والعالمين بالأمور، هناك ما نعرف ولا نعرف، لكن ثمة مجالا مفتوحا فعلا لكي ننجو معا، ستكون نجاتنا لها معنى، ستقربنا من التفكير الملتزم بالتوازن الأخلاقي والإنساني والوطني بخلاصنا معا؛ ففي العمق فعلا ليس هناك تناقض بين خلاصي وخلاصك، فالأرض واسعة، وفيها ثمار تكفينا.
نرجو أن تكون الخلاصة وطنيا بعد هذه الجائحة، بأن نفكّر في أمر خلاصنا الصحي والاقتصادي، ونحن نتقدم لخلاصنا الوطني من الاحتلال وما يرتبط به، لأننا الآن أمام اختبار عام وشخصي، كيف سنثبت وجودنا الإبداعي في فضائنا، حتى ولو تم تقييده وتحديده. السيرورة والصيرورة، لها استحقاق الفعل أولا، وتلك ثمرة من ثمار التأمل بـ»كورونا» الفيروس وفيروسات شرور البشر.
«فخلي القلوب ع بعضها، وشوية حنان وفهم، ومسؤولية»، ومن كانت لدية شجرة ليرعها، وليزرع قربها شجرة تؤنسها لتزداد مساحات الأخضر في حياتنا، و»اللي عنده كلمة حلو يقولها».
قد يهمك أيضا :
الفلسطيني في الرواية العربية: إلياس خوري في «الوجوه البيضاء» (2 - 2)
كليم الرواية الفلسطينية