بقلم : سما حسن
فاجئنا الأيام وتصدمنا التواريخ والأرقام، تتمعن بما كنت تمر عليه مرور الكرام، وتكتشف مصادفات ومفارقات وتتنهد وأنت تسند رأسك إلى الخلف وتقول: سبحان الله. وهذا ما يحدث قليلا لأن صخب حياتنا أصبح يلاحقنا بسوط ثقيل فلا نتوقف لكي نلتفت، ولكني فعلت ذلك والتفت ورأيت في حياة غسان كنفاني وكيف دخل إلى حياتي وأغرمت بكتاباته ومقولاته، رأيت واكتشفت ما يجعلني أقول، إن للآخرين بصمات في حياتنا ونخطئ حين نقول إننا قد اخترنا وحدنا وبمفردنا.
تأملت في تاريخ وفاة الكاتب والروائي والصحافي والناقد غسان كنفاني فوجدت انه قد توفي وأنا لا زلت رضيعة ابنة ستة اشهر، وانه ولد في العام 1936 وهذا العام لا انسأه أبدا، فهناك عدة أشخاص بالقرب مني قد ولدوا في هذا العام.
غسان كنفاني دخل إلى حياتي في العام 1988 بالتحديد ولم اقرأ له بالطبع في كتاب مدرسي، ولكنه دخل بيتنا بكتاب يحمل اسم "الأعمال الكاملة" ولهذه قصة طويلة، واختصارها إنني كنت من جيل الثمانينيات الذي اغرم بالمراسلة كهواية، وحدث أن نشرت أول قصصي القصيرة في جريدة القدس اليومية وقتها وذيلت القصة برقم صندوق بريد أبي وكنت انتظر رأي القراء على سذاجة مني فيما كتبت وفوجئت بصندوق بريد أبي ممتلئا برسائل ترحيب وعرض للمراسلة من شتى أنحاء فلسطين، وهكذا وجدت رسالة من شاب من غزة كتب لي فيها منتقدا ما خطته يدي من قصة قصيرة وظل ينتقد وينتقد ويقارن ظلما وجورا أسلوبي بأسلوب غسان كنفاني، وبأن علي أن اقرأ واقرأ، وهكذا وقعت على اسم غسان كنفاني لأول مرة في حياتي في هجوم لم أكن مسؤولة عنه فقد كنت مجرد كاتبة صغيرة في باب الهواة في الجريدة ليس اكثر.
حملت أمي اسم الشاب لزميلة لها في المدرسة والتي أخبرتها ان هذا الشاب يمت بصلة قرابة لها، وبدورها أخبرته انني ابنة لزميلتها وهكذا دون تردد وعلى وجه السرعة كانت أمي تعود من المدرسة ذات ظهيرة وفي يوم إضراب شامل حيث لم تتوفر المواصلات وقتها وعادت سيرا على قدميها وهي تحمل المجلد الضخم وصوت لهاث صدرها يسبقها بأمتار، فقد كانت أمي تعاني من الربو المزمن، فحزنت عليها وقد عنفتني في غير شدة وهي تقول: خذي هذا الكتاب، هذا ما ينالني من حبك للكتب، ألقته نحوي وقد تلقفته وبدأت دخول عالم قصص غسان كنفاني.
وهكذا قرأت كل القصص في المجموعة الضخمة، وبدأت اكتشاف ان الأدب مقاومة مثلما قال وكرر، وان قصة قصيرة تغني عن ألف سلاح، وقررت ان استمر في الكتابة رغم تحفظ أمي وبأن علي ان ادخل المطبخ لكي اتمرن لأصبح ربة بيت ماهرة، ولكن ذلك لم يحدث واصبح لي ركني المظلم الذي أقرأ فيه خلسة عن اجتماعات العائلة، والذي استغل انشغال أمي بجاراتها في ساعات ما بعد العصر لكي اقرأ وأبحر في العالم البعيد الذي تأخذني إليه القراءة.
مرت سنوات طويلة وكان اللقاء الثاني مع صاحب الكتاب الذي أرسله لي وانقطعت أخباره وعلمت انه قد اصبح معتقلا في سجون الاحتلال خلال سنوات الانتفاضة الأولى "انتفاضة الحجارة"، وعلمت انه قد نال حكما لخمسة عشر عاما، وهكذا انطوت ذكراه ولكني لم انس اسمه، وبأنني قد قرأت ملامح ثائر على رسالة وحيدة أرسلها لي، رسالة أشعرتني انه يحمل السلاح ويهتف في التظاهرات ويرفع الشعارات، حتى كان اللقاء الثاني.
اللقاء الثاني كان في عيادة عامة ولفتني اسم طفله، فالتفت نحوه، فوجدت أمامي رجلا مهزوما، مهزوم الحلم ومهزوم العاطفة، كان شعره اشعث يخالطه الشيب، ولم يكن يتحدث عن الثورة والنضال ولا عن أي شيء، كان يهمس لامرأة عادية جواره عن ضرورة شراء البندورة في طريق العودة على المنزل، ويوصيها ألا تنسى تقديم خافض الحرارة للصغير.
قد يهمك أيضا :
عندما نألف النِّعم
في وداع فاروق مواسي