بقلم : سما حسن
خرج أبي رحمه الله من قريته مع عائلته في العام 1948 وكان يبلغ من العمر خمس سنوات، ولذلك فهو لا يذكر شيئا عن القرية وهي قرية حمامة، ولم يكن يتحدث عن قريته إلا بما كان يسمعه من والديه اللذين توفيا تباعا وبذلك فقد احتفظ أبي بما سمعه منهما، خاصة أن إخوته الكبار قد رحلوا عن غزة بعد أن استقروا فيها ما بين العام 1956 والعام 1967، وهما العامان اللذان شهدا حربين أثرتا على الوضع في غزة حيث استقر بها آلاف اللاجئين، وهكذا لم تبق ذاكرة لنا إلا ما سمعناه من أبي رحمه الله.
كنا نحن الأحفاد لجدي وجدتي نتلهف لنعرف أي خبر عن طبيعة الحياة في البلاد التي هجر منها الأجداد، والحياة قبل النكبة في فلسطين التي أصبحت محتلة، ولم نكن نعرف الكثير حتى عن عائلتنا ومن أي الأصول تنحدر حتى وقعت على صفحة على موقع فيس بوك اسمها «بلدة حمامة» وتعرفت إلى معلومات عن مسقط رأسي لم أكن أعرفها وقد بلغت من العمر اليوم ثمانية وأربعين عاماً.
بعد كل هذا العمر من الانتماء لعائلتي عرفت أصلها ومن أين جاء جدي الأكبر إلى فلسطين، وهذه المعلومات يجهلها بالطبع الكثيرون من أبناء العائلة، وربما يتوارد لخاطر البعض من أبناء هذا الجيل أن العائلة الفلسطينية أصلها فلسطين، في حين أن هناك عائلات قد قدمت إلى فلسطين وانصهرت بالنسب والمصاهرة مع عائلات أخرى وأصبح لها فروعها، ولذلك فالقضية هنا متشابكة ومتفرعة، والجهل بها يعني الجهل بتاريخ فلسطين، والسبب هو أننا ننسى، ولكي لا ننسى يجب أن نوثق كل شيء، ولا نؤجل شيئا للغد، لأن هناك أمراً يحدث ويتسبب بضياع ذاكرة فلسطين، هذا الشيء هو الموت.
لو كان أبي رحمه الله حيا لأصبح في ذكرى النكبة الثانية والسبعين في السابعة والسبعين من عمره، ولظل أبي يتذكر، ولكن أبي توفي منذ عامين وبضعة أشهر، ولذلك فقد ذهبت ذكرياته معه، وكنت أنوي في كل مرة التقي به أن أقوم بتسجيل لقاءات صوتية على هاتفي النقال لبعض الأحداث المهمة التي مرت به مثل وصوله سيراً على الأقدام من القاهرة إلى غزة أثناء حرب العام 1967، وحيث جاء سيراً على ساحل البحر وكاد يهلك عطشا ولم يكن يملك طعاما ولا شرابا، واستمر في المسير ستة أيام متتالية هربا من الحرب، فيما كانت الطائرات تحوم فوق رأسه.
هذه الحكاية التي كان يرويها أبي دائما وبأن «عمر الشقي بقي»، من الحكايات الكثيرة التي يجب أن توثق، وما التاريخ إلا حكايات صغيرة تم جمعها وأيدها التطابق، فحين تتطابق أكثر من رواية يكتب التاريخ، ولذلك فلم لا نكتب ونسجل قبل أن يأتي الموت على كل من ما زالوا على قيد الحياة من جيل النكبة.
فقد لاحظت أن كل عام يقل عدد من يلتقيهم الصحافيون من كبار السن الذين شهدوا النكبة، وأصبح العثور على أحدهم صعبا فالأكثرية أصبحت في عداد الموتى، والأحياء ربما أصابهم ضعف الذاكرة، ولذلك فقد فرحت حين التقى صحافي شاب نشط في غزة بسيدة مسنة ما زالت قادرة عن الحديث عن قريتها ومسقط رأسها قبل نكبة فلسطين.
لكي لا ننسى نحن بحاجة للتسجيل والتوثيق والكتابة، هذا الجيل الذي شهد النكبة بدأ يندثر ويقل، والأبناء والأحفاد ليس لديهم أي حماسة لسماع القصص والروايات فالحياة الحالية اشغلتهم، وقسوة الدنيا وظروفها لم تترك لهم متسعا لكي يسرحوا في خيالهم مع حكاية جدة كانت تخبز الطابون تحت شجرة الجميز في قرية ما بالقرب من مدينة المجدل، لن يهتم كثيراً ليسمع حكاية الجد الذي سافر بطفلته على الحمار من قريته «حمامة» إلى الطبيب الوحيد في مدينة المجدل لكي يعالجها من الحمى، ولن يتشوق ويتحمس لحكاية الضبع الخيالية ولا حكاية أبو حنا ولا حكاية أمنا الغولة التي كانت تنتظر على حدود القرى كل عائد من المدينة.
لكي لا ننسى يجب أن نسرع، يجب أن نحتفظ بالذاكرة المحكية، والموثقة من قصص ما زال أصحابها يذكرونها، فالحكايات المسجلة لها طعمها ونكهتها، ولا يمكن أن يملأ فراغها أي تقرير أو فيلم مصور، فالأسى والحنين بصوت الراوي هو أسرع وسيلة لمقاومة النسيان.
قد يهمك أيضا :
تحية للوزيرة
قلبي لم يطمئن