إسرائيل تستسهل استهداف سورية لأن السوريين لم يردوا عندما تم قصفهم المرة الأولى، ولم يردوا عندما تم قصفهم المرة الثانية والثالثة والألف حتى أصبح «الخد معتاد على الضرب».
حتى غزة التي لا تمتلك طائرات أو دفاعات جوية أو صواريخ دقيقة تفكر إسرائيل مرات عدة قبل أن تستهدفها لأنها تعلم أن هناك ثمنا ستدفعه إذا ما فعلت ذلك.
مع حزب الله المسألة أكثر تعقيداً. إسرائيل تبذل قصارى جهدها لتجنب إصابة أي من مقاتليه في غاراتها على سورية.
لقد شاهدنا أشرطة فيديو تبين كيف قامت الطائرات الإسرائيلية (بدون طيار كما يبدو) بتحذير مقاتلي حزب الله في سورية قبل أن تستهدف سيارة كانوا يستقلونها. المفاجأة كانت أن إسرائيل أعطت المقاتلين ما يكفي من الوقت لمغادرتها لدرجة أن أحدهم قد عاد الى السيارة بعد أن غادرها ببرهة قليلة ليلتقط حقيبته، وانتظرت الطائرات الإسرائيلية ما يكفي من الوقت لابتعاد المقاتلين قبل أن تقصفها. لماذا؟
لأنه لو جرح مقاتل لحزب الله فإن إسرائيل ستدفع ثمن ذلك.
هذا يسمى ردعا. والردع مهما كانت كلفته عالية على فلسطينيي غزة وعلى اللبنانيين، هو ما يحميهم من غرور القوة الإسرائيلية.
منذ أسبوع والإسرائيليون في حالة تخبط مزرية بعد أن قتلوا أحد مقاتلي حزب الله بالخطأ أثناء غارة لهم الأسبوع الماضي على سورية.
دولة من رأسها لأصغر مسؤول فيها أصبح في حالة قلق وارتباك لأنه يعلم بأن الرد على عملية القتل لمقاتل حزب الله قادم.
الطريقة التي تصرفت فيها إسرائيل من ادعاء حدوث قصف لأحد مركباتها، ثم الادعاء بأنه كان هنالك تسلل وقامت بإحباطه وقتل المتسللين ثم التراجع عن كل ذلك بدون تفسير وتعزيز الحدود الشمالية يخبرنا بشيء واحد فقط: أن هذه الدولة في عجلة من أمرها لرد حزب الله لأنها لم تعد تحتمل الانتظار فهو مكلف لها.
والكلفة ليست مادية فقط ولكن معنوية واستراتيجية. الخوف من الرد يعيق عودة الحياة لطبيعتها في الحدود الشمالية المحاذية للبنان. والخوف من أن الرد قد يستدعي رداً، وبالتالي الذهاب باتجاه الحرب وهذا يعيق سير الحياة الطبيعية في كل دولة إسرائيل.
واستراتيجياً، الانشغال بالحدود الشمالية يحرم إسرائيل من فرصة التركيز على أعدائها الإيرانيين وعلى أعدائها في غزة. وحتى لو قامت إسرائيل بعمليات أو غارات جديدة على سورية، فإن ذلك سيكون من باب الدعاية فقط بأنها قادرة على التحرك على عدة جبهات حتى وإن أصبحت مشغولة أكثر بحدودها الشمالية.
يمكن للمرء أن يقول أن هذه الدولة ربما كانت تفضل لو أن بإمكانها قتل أحد جنودها بنفسها وتقديمه قرباناً لحزب الله حتى تتخلص من حالة الضغط النفسي التي تعيشها اليوم.
البعض سيعتبر ذلك مبالغة، لكن ليقل لنا هذا البعض لماذا قامت إسرائيل في أيلول الماضي بالادعاء بأن حزب الله تمكن من قتل عدة جنود لها بعد حادث مشابه ثم تكشف لاحقاً بأن كل ما قامت به من إحضار لسيارات اسعاف ونقل للجنود بطائرات الهيلوكوبتر الى المستشفيات كان مجرد تمثيلية للتمويه؟!
تمويه عن ماذا؟
المسألة لم تكن تمويهاً ولكن محاولة لابتلاع صفعة حزب الله لها بادعاء تحقيق نصر كاذب «في عملية تمويه.»
منذ متى تقوم إسرائيل بالصمت على حوادث إطلاق نار على جنودها؟ اليوم نعلم بعد «انتصارها في عملية التمويه» أن الردع يعلمها ابتلاع الإهانة.
إسرائيل اليوم في مأزق: هل ستحتمل أن يقتل لها جنود أم أنها ستدخل في حرب لا تريدها إن حصل ذلك. في الحالتين هي خاسرة. فهي لم تعد قادرة على تقرير مكان وزمان ومدة أي حرب كما كان عليه الوضع سابقا.
هذا هو الردع لمن يحاول فهمه، وهو قد تحقق قبل أن يقوم حزب الله بالرد على مقتل أحد مقاتليه.
لو لم تقم إيران بقصف القواعد العسكرية الأميركية في العراق بعد اغتيال قاسم سليماني، لقامت الولايات المتحدة بقصف كل ما هو إيراني في الخليج العربي.
وقدرة على الاحتمال لأن الطاقة التدميرية للخصم مخيفة.
الردع لا يحدث لأن الخصم يفقد القدرة على التدمير. فهو قادر على تدمير غزة ولبنان وقام بذلك سابقاً دون أي اعتبار أخلاقي أو قانوني.
الردع يحدث لأن الخصم لا يستطيع أن يحتمل جزءاً بسيطاً من الخسارة التي يتسبب فيها لغيره.
بلغة أخرى، إسرائيل تستطيع تدمير مطار بيروت في دقائق، لكن لأنها تعلم أن مطار بن غوريون قد تلحق به بعض الأضرار إذا ما تجرأت على القيام بما تستطيع القيام به، لذلك هي تمتنع عن قصف مطار بيروت، وبهذا يتحقق الردع.
السوريون يمتلكون قوة نارية أكبر بكثير من تلك التي يمتلكها حزب الله ومما تمتلكه الفصائل في غزة ويمكنهم لو امتلكوا الإرادة من تحقيق الردع. لكن الإرادة لديهم مرتبطة بالدفاع عن النظام وليس عن حدودهم وسمائهم وأرضهم.
كل ما هو مطلوب هو الرد على الرد حتى لو تطور الرد الى حرب شاملة، لكن بعدها لن تتجرأ إسرائيل على استهداف سورية لأنها ستعلم أن هنالك كلفة عالية لما تقوم به.
جمال عبد الناصر امتلك هذه الروح في حرب الاستنزاف رغم عدم امتلاكه لأسلحة تحقق له الردع الذي يريد. السوريون يمتلكون هذه الأسلحة اليوم، لكن ما ينقصهم هو روح عبد الناصر.
قد يهمك أيضا :
كيف تعزز الدول استقلالها السياسي؟
عن الاستفادة من التجربة الأردنية في مواجهة الجائحة