بقلم : محمد ياغي
من المبكر جداً الحديث عن شكل العلاقات الدولية في مرحلة ما بعد فيروس كورونا، لأن العالم في ظل النظام الاقتصادي الليبرالي تحول إلى سوق واحدة: الولايات المتحدة مثلا تشتري، اليوم، كماماتها الطبية من الصين، والأخيرة لا يمكنها أن تطور اقتصادها، وبالتالي زيادة المستوى المعيشي لسكانها إذا لم يكن هناك مشترون لمنتجاتها.
هذا النوع من الاعتمادية الاقتصادية، يسمح لنا بالقول، إن انهيار الاقتصاد الأميركي، ليس مصلحة صينية، لأنه يعني بالقطع بأن الصين ستخسر إحدى أكبر أسواقها العالمية وبالتالي سيضعف نموها الاقتصادي بشكل كبير.
بالمثل، من المبكر أيضاً الاستنتاج بأن الاتحاد الأوروبي سيفقد جاذبيته للعديد من الدول الأوروبية وأن العديد منها سيفضل الخروج من هذا الاتحاد بسبب ما يقال عن غياب التنسيق والتضامن خلال الأزمة الحالية.
الأسباب التي من أجلها فضل الأوروبيون قيام اتحاد فيما بينهم لا زالت قائمة وأهمها تسهيل حركة الأفراد والبضائع فيما بينهم، توحيد النظام المالي، وخلق نظام للأمن الجماعي. ربما يدفع فشل الأوروبيين الحالي في التضامن فيما بينهم الى بنائهم لآليات جديدة للعمل خلال أزمات مشابهة في المستقبل.
ومن السذاجة أيضا القول، إن الدول العظمى ستتخلى عن ترسانتها النووية بعد أن تبين أن مشغلي هذه الترسانة قد يصابون بأمراض قاتلة لا تتيح لهم تشغيلها أو صيانتها، كما حدث على متن حاملة الطائرات الأميركية ثيودور روزفلت.
العالم الذي نعرفه، اليوم، سيتغير بلا شك بعد مرحلة «كورونا» لكن اتجاهات هذا التغير وحجمه في تقديري ستكون محدودة وفي مجالين تحديداً:
الأول: سيكون في مجال تعزيز دور الدولة الوطنية في الإنتاج. هذه الدولة التي تخلت عن دورها في النظام الاقتصادي الليبرالي، ستعود لممارسة دورها في إنتاج المواد الأساسية لشعوبها.
ربما لا تعود كل الدول للقيام بذلك، لكن الدولة الوطنية التي تحكمها حكومة منتخبة من شعبها، لن تقبل بأن يرتهن مصيرها في الأزمات، لما تنتجه دول أخرى. ستعمل هذه الدول على فرض قوانين تجبر أصحاب رؤوس الأموال على إنتاج المواد الأساسية التي يحتاجونها في الأزمات داخل حدودهم.
اليوم، تتنافس الدول الغربية فيما بينها على شراء الكمامات والمعدات الطبية من الصين. الولايات المتحدة دفعت ثلاثة أضعاف ثمن شحنة من الكمامات يقدر عددها بعشرات الملايين لإقناع شركة صينية بإلغاء تعاقدها مع شركة فرنسية وتحويل الإنتاج لأميركا بدل فرنسا.
الألمان والكنديون أيضا خسروا شحنات من المعدات الطبية بنفس الطريقة لحساب الولايات المتحدة لدرجة أن رئيس البرلمان الألماني نعت ما حدث «بالقرصنة العصرية». وبعض الدول تعرضت للسرقة المباشرة أيضاً: شحنة من الكمامات مثلاً كانت طريقها من كينيا لألمانيا، لم تصل إلى هدفها مطلقا واختفت في كينيا.
الدولة الوطنية ما بعد الأزمة ستعمل على حل هذه المشاكل لأن استمرار الوضع الحالي يعني عجزها عن توفير احتياجاتها الأساسية عندما تحتاجها في الأزمات، يعني انهيارها. تخيلوا مثلاً ألا تتمكن هذه الدول من توفير القمح والأرز واللحوم والخضار لشعوبها، هذا يعني أزمات داخل البلد نفسه وانهيارا للمنظومة الأمنية لا تستطيع هذه الدول أن تتحمله.
اليوم، تتم التضحية بإنتاج الخضار والحبوب وبالمزارع التي تسمح بإنتاج اللحوم لأن استيرادها من الخارج أقل تكلفة من إنتاجها محلياً. هذا الوضع قد يتغير لأن استمراره فيه مخاطرات كبرى كما تبين التجربة الحالية.
للحد من هذه المخاطر، سنشهد على الأغلب قيام الدول بفرض قوانين وتعريفات جمركية لإنتاج المواد الأساسية داخل حدود الدولة الوطنية ولحمايتها من المنافسة باعتبارها أحد مكونات الأمن القومي الأساسية.
المجال الثاني الذي سنشهد فيه تغيرا هو فيما يتعلق بالحقوق الاجتماعية. هذه الحقوق تعرضت لهجمة شرسة منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي عندما تم تقديم اقتصاد السوق الحر على انه المنقذ للازمات الاقتصادية التي كانت تعاني منها العديد من بلدان العالم.
في البلدان الرأسمالية تم إلغاء الكثير من الحقوق التي تم اكتسابها عبر صراع طويل بين أصحاب العمل والعمال بما فيه العلاج والتعليم المجاني، حدود دنيا من الأجور، دور أكبر للدولة في الحد من مشاكل البطالة وفي التحكم في الأسعار.
وفي دول العالم الثالث تم فرض هذه التغيرات بقوة القروض التي لم يكن ممكنا الحصول عليها من البنك الدولي دون تغير البنى الاقتصادية فيها بما في ذلك خصخصة الشركات التي يملكها القطاع العام، وإعطاء المالكين حق التخلص من العمال، وتقليص عدد موظفي الدولة إلى الحدود الدنيا وإلغاء الدعم الحكومي للكثير من البضائع الأساسية، وتقنين الإنفاق على التعليم والصحة للحدود الدنيا.
في الدول الرأسمالية الغنية خسرت الطبقة المتوسطة الكثير من حقوقها الاجتماعية لكن وجود العمل لم يسمح للازمات الاجتماعية بالانفجار بشكل واسع كما حصل في بلدان العالم الثالث، وجميعنا يعلم الأسباب الحقيقية للثورات العربية فهي في جوهرها اجتماعية وإن تصدرت الحريات جزءا مهما من مطالب المحتجين.
في ظل الأزمة الحالية، عادت الدولة في البلدان الرأسمالية الغنية وفي بلدان العالم الثالث لتقديم جزء من احتياج الناس الاجتماعية وهي عودة ضرورية لمنع الانفجار الاجتماعي في ظل غياب الدخل للغالبية العظمى من الناس.
لكن تدخل الدولة لا يزال في حدوده الدنيا، والمستفيد الأكبر في الدول الغربية الغنية من هذا التدخل كان أصحاب الشركات الكبيرة والبنوك وليس شرائح المجتمع الواسعة. مثلاً الحزمة الاقتصادية التي اقرها مجلس الشيوخ الأميركي وقيمتها تريليونان من الدولارات، نصيب العامل الأميركي فيها 1200 دولار وهي لا تكفي لدفع أجرة الشقة التي يعيش فيها، والجزء الأكبر من حزمة المساعدات خصص للشركات الكبيرة.
أيضاً عملت العديد من الدول الغربية الغنية على تأخير الإجراءات التي كان من الممكن ان تساعد على تأخير انتشار المرض وانهيار نظمها الصحية بذريعة أن تلك الإجراءات ستؤثر بشكل كبير على الاقتصاد.
بالطبع، تعطيل الأعمال والطيران وإلزام الناس في بيوتها ستؤدي إلى صعوبات اقتصادية كبيرة. لكن في المفاضلة بين الحفاظ على حياة الناس والاقتصاد كان هناك ميل غير مشروع وغير مبرر لإبقاء الحال على ما كان عليه الوضع قبل انتشار الوباء، وهذا استهتار بحياة الناس وإعلاء لقيمة الاقتصاد الحر على القيمة الإنسانية.
التساؤل المشروع الذي سيحاول العديد من الناس طرحه والحصول على إجابة عنه هو لمصلحة من تم ذلك؟ وما قيمة الاقتصاد إن كان الناس سيخسرون عافيتهم وحياتهم؟
انهيار الأنظمة الصحية بسبب عدم قدرتها على استيعاب المرضى وعدم توفر الأجهزة والمعدات الطبية والأطقم الطبية الكافية ليس سببه الوحيد الارتفاع المفاجئ في أعداد المرضى فقط، ولكن أيضاً في ترك هذا القطاع المهم في الدول الغنية والفقيرة على حد سواء للقطاع الخاص الذي لا يهتم إلا بالعائد المالي. لماذا سيحضر هذا المشفى الخاص أعدادا إضافية من أجهزة التنفس ويقوم بتخزينها إن لم يستطع استرداد ثمنها من المرضى؟
باختصار، بعد انتهاء الأزمة سنشهد على الأغلب حراكا أكبر من الناس للمطالبة في تدخل أكبر للدولة في الاقتصاد وفي قوننة حقوقهم الاجتماعية.