الدولة الوطنية والحقوق الاجتماعية بعد أزمة «كورونا»
آخر تحديث GMT 12:11:16
 فلسطين اليوم -

الدولة الوطنية والحقوق الاجتماعية بعد أزمة «كورونا»

 فلسطين اليوم -

الدولة الوطنية والحقوق الاجتماعية بعد أزمة «كورونا»

محمد ياغي
بقلم : محمد ياغي

من المبكر جداً الحديث عن شكل العلاقات الدولية في مرحلة ما بعد فيروس كورونا، لأن العالم في ظل النظام الاقتصادي الليبرالي تحول إلى سوق واحدة: الولايات المتحدة مثلا تشتري، اليوم، كماماتها الطبية من الصين، والأخيرة لا يمكنها أن تطور اقتصادها، وبالتالي زيادة المستوى المعيشي لسكانها إذا لم يكن هناك مشترون لمنتجاتها.
هذا النوع من الاعتمادية الاقتصادية، يسمح لنا بالقول، إن انهيار الاقتصاد الأميركي، ليس مصلحة صينية، لأنه يعني بالقطع بأن الصين ستخسر إحدى أكبر أسواقها العالمية وبالتالي سيضعف نموها الاقتصادي بشكل كبير.
بالمثل، من المبكر أيضاً الاستنتاج بأن الاتحاد الأوروبي سيفقد جاذبيته للعديد من الدول الأوروبية وأن العديد منها سيفضل الخروج من هذا الاتحاد بسبب ما يقال عن غياب التنسيق والتضامن خلال الأزمة الحالية.
الأسباب التي من أجلها فضل الأوروبيون قيام اتحاد فيما بينهم لا زالت قائمة وأهمها تسهيل حركة الأفراد والبضائع فيما بينهم، توحيد النظام المالي، وخلق نظام للأمن الجماعي. ربما يدفع فشل الأوروبيين الحالي في التضامن فيما بينهم الى بنائهم لآليات جديدة للعمل خلال أزمات مشابهة في المستقبل.
ومن السذاجة أيضا القول، إن الدول العظمى ستتخلى عن ترسانتها النووية بعد أن تبين أن مشغلي هذه الترسانة قد يصابون بأمراض قاتلة لا تتيح لهم تشغيلها أو صيانتها، كما حدث على متن حاملة الطائرات الأميركية ثيودور روزفلت.
العالم الذي نعرفه، اليوم، سيتغير بلا شك بعد مرحلة «كورونا» لكن اتجاهات هذا التغير وحجمه في تقديري ستكون محدودة وفي مجالين تحديداً:
الأول: سيكون في مجال تعزيز دور الدولة الوطنية في الإنتاج. هذه الدولة التي تخلت عن دورها في النظام الاقتصادي الليبرالي، ستعود لممارسة دورها في إنتاج المواد الأساسية لشعوبها.
ربما لا تعود كل الدول للقيام بذلك، لكن الدولة الوطنية التي تحكمها حكومة منتخبة من شعبها، لن تقبل بأن يرتهن مصيرها في الأزمات، لما تنتجه دول أخرى. ستعمل هذه الدول على فرض قوانين تجبر أصحاب رؤوس الأموال على إنتاج المواد الأساسية التي يحتاجونها في الأزمات داخل حدودهم.
اليوم، تتنافس الدول الغربية فيما بينها على شراء الكمامات والمعدات الطبية من الصين. الولايات المتحدة دفعت ثلاثة أضعاف ثمن شحنة من الكمامات يقدر عددها بعشرات الملايين لإقناع شركة صينية بإلغاء تعاقدها مع شركة فرنسية وتحويل الإنتاج لأميركا بدل فرنسا.
الألمان والكنديون أيضا خسروا شحنات من المعدات الطبية بنفس الطريقة لحساب الولايات المتحدة لدرجة أن رئيس البرلمان الألماني نعت ما حدث «بالقرصنة العصرية». وبعض الدول تعرضت للسرقة المباشرة أيضاً: شحنة من الكمامات مثلاً كانت طريقها من كينيا لألمانيا، لم تصل إلى هدفها مطلقا واختفت في كينيا.
الدولة الوطنية ما بعد الأزمة ستعمل على حل هذه المشاكل لأن استمرار الوضع الحالي يعني عجزها عن توفير احتياجاتها الأساسية عندما تحتاجها في الأزمات، يعني انهيارها. تخيلوا مثلاً ألا تتمكن هذه الدول من توفير القمح والأرز واللحوم والخضار لشعوبها، هذا يعني أزمات داخل البلد نفسه وانهيارا للمنظومة الأمنية لا تستطيع هذه الدول أن تتحمله.
اليوم، تتم التضحية بإنتاج الخضار والحبوب وبالمزارع التي تسمح بإنتاج اللحوم لأن استيرادها من الخارج أقل تكلفة من إنتاجها محلياً. هذا الوضع قد يتغير لأن استمراره فيه مخاطرات كبرى كما تبين التجربة الحالية.
للحد من هذه المخاطر، سنشهد على الأغلب قيام الدول بفرض قوانين وتعريفات جمركية لإنتاج المواد الأساسية داخل حدود الدولة الوطنية ولحمايتها من المنافسة باعتبارها أحد مكونات الأمن القومي الأساسية.
المجال الثاني الذي سنشهد فيه تغيرا هو فيما يتعلق بالحقوق الاجتماعية. هذه الحقوق تعرضت لهجمة شرسة منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي عندما تم تقديم اقتصاد السوق الحر على انه المنقذ للازمات الاقتصادية التي كانت تعاني منها العديد من بلدان العالم.
في البلدان الرأسمالية تم إلغاء الكثير من الحقوق التي تم اكتسابها عبر صراع طويل بين أصحاب العمل والعمال بما فيه العلاج والتعليم المجاني، حدود دنيا من الأجور، دور أكبر للدولة في الحد من مشاكل البطالة وفي التحكم في الأسعار.
وفي دول العالم الثالث تم فرض هذه التغيرات بقوة القروض التي لم يكن ممكنا الحصول عليها من البنك الدولي دون تغير البنى الاقتصادية فيها بما في ذلك خصخصة الشركات التي يملكها القطاع العام، وإعطاء المالكين حق التخلص من العمال، وتقليص عدد موظفي الدولة إلى الحدود الدنيا وإلغاء الدعم الحكومي للكثير من البضائع الأساسية، وتقنين الإنفاق على التعليم والصحة للحدود الدنيا.
في الدول الرأسمالية الغنية خسرت الطبقة المتوسطة الكثير من حقوقها الاجتماعية لكن وجود العمل لم يسمح للازمات الاجتماعية بالانفجار بشكل واسع كما حصل في بلدان العالم الثالث، وجميعنا يعلم الأسباب الحقيقية للثورات العربية فهي في جوهرها اجتماعية وإن تصدرت الحريات جزءا مهما من مطالب المحتجين.
في ظل الأزمة الحالية، عادت الدولة في البلدان الرأسمالية الغنية وفي بلدان العالم الثالث لتقديم جزء من احتياج الناس الاجتماعية وهي عودة ضرورية لمنع الانفجار الاجتماعي في ظل غياب الدخل للغالبية العظمى من الناس.
لكن تدخل الدولة لا يزال في حدوده الدنيا، والمستفيد الأكبر في الدول الغربية الغنية من هذا التدخل كان أصحاب الشركات الكبيرة والبنوك وليس شرائح المجتمع الواسعة. مثلاً الحزمة الاقتصادية التي اقرها مجلس الشيوخ الأميركي وقيمتها تريليونان من الدولارات، نصيب العامل الأميركي فيها 1200 دولار وهي لا تكفي لدفع أجرة الشقة التي يعيش فيها، والجزء الأكبر من حزمة المساعدات خصص للشركات الكبيرة.
أيضاً عملت العديد من الدول الغربية الغنية على تأخير الإجراءات التي كان من الممكن ان تساعد على تأخير انتشار المرض وانهيار نظمها الصحية بذريعة أن تلك الإجراءات ستؤثر بشكل كبير على الاقتصاد.
بالطبع، تعطيل الأعمال والطيران وإلزام الناس في بيوتها ستؤدي إلى صعوبات اقتصادية كبيرة. لكن في المفاضلة بين الحفاظ على حياة الناس والاقتصاد كان هناك ميل غير مشروع وغير مبرر لإبقاء الحال على ما كان عليه الوضع قبل انتشار الوباء، وهذا استهتار بحياة الناس وإعلاء لقيمة الاقتصاد الحر على القيمة الإنسانية.
التساؤل المشروع الذي سيحاول العديد من الناس طرحه والحصول على إجابة عنه هو لمصلحة من تم ذلك؟ وما قيمة الاقتصاد إن كان الناس سيخسرون عافيتهم وحياتهم؟
انهيار الأنظمة الصحية بسبب عدم قدرتها على استيعاب المرضى وعدم توفر الأجهزة والمعدات الطبية والأطقم الطبية الكافية ليس سببه الوحيد الارتفاع المفاجئ في أعداد المرضى فقط، ولكن أيضاً في ترك هذا القطاع المهم في الدول الغنية والفقيرة على حد سواء للقطاع الخاص الذي لا يهتم إلا بالعائد المالي. لماذا سيحضر هذا المشفى الخاص أعدادا إضافية من أجهزة التنفس ويقوم بتخزينها إن لم يستطع استرداد ثمنها من المرضى؟
باختصار، بعد انتهاء الأزمة سنشهد على الأغلب حراكا أكبر من الناس للمطالبة في تدخل أكبر للدولة في الاقتصاد وفي قوننة حقوقهم الاجتماعية.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الدولة الوطنية والحقوق الاجتماعية بعد أزمة «كورونا» الدولة الوطنية والحقوق الاجتماعية بعد أزمة «كورونا»



GMT 14:39 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

007 بالمؤنث

GMT 14:37 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

هل هي نهاية الخلاف السعودي ـ الأميركي؟

GMT 14:31 2023 الخميس ,09 آذار/ مارس

الجنرال زلزال في سباق أنقرة إلى القصر

GMT 03:38 2023 السبت ,04 آذار/ مارس

في حق مجتمع بكامله

تارا عماد تتألق بإطلالات عصرية ملهمة لطويلات القامة من عاشقات الموضة والأناقة

القاهرة ـ فلسطين اليوم
تلهم النجمة المصرية تارا عماد متابعاتها العاشقات للموضة بإطلالاتها اليومية الأنيقة التي تعكس ذوقها الراقي في عالم الأزياء، بأسلوب هادئ ومميز، وتحرص تارا على مشاركة متابعيها إطلالاتها اليومية، وأيضا أزياء السهرات التي تعتمدها للتألق في فعاليات الفن والموضة، والتي تناسب طويلات القامة، وهذه لمحات من أناقة النجمة المصرية بأزياء راقية من أشهر الماركات العالمية، والتي تلهمك لإطلالاتك الصباحية والمسائية. تارا عماد بإطلالة حريرية رقيقة كانت النجمة المصرية تارا عماد حاضرة يوم أمس في عرض مجموعة ربيع وصيف 2025 للعبايات لعلامة برونيلو كوتشينيلي، والتي قدمتها الدار في صحراء دبي، وتألقت تارا في تلك الأجواء الصحراوية الساحرة بإطلالة متناغمة برقتها، ولونها النيود المحاكي للكثبان الرملية، وتميز الفستان بتصميم طويل من القماش الحرير...المزيد

GMT 12:11 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
 فلسطين اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 06:02 2020 الخميس ,04 حزيران / يونيو

لا تتهوّر في اتخاذ قرار أو توقيع عقد

GMT 13:42 2020 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

أعد النظر في طريقة تعاطيك مع الزملاء في العمل

GMT 19:16 2020 الإثنين ,04 أيار / مايو

ينعشك هذا اليوم ويجعلك مقبلاً على الحياة

GMT 14:22 2020 الإثنين ,19 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم برج الحمل الإثنين 26 أكتوبر/تشرين الثاني 2020

GMT 07:37 2019 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

تفتقد الحماسة والقدرة على المتابعة

GMT 07:39 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

تعيش أجواء مهمة في حياتك المهنية والعاطفية

GMT 22:52 2023 الإثنين ,13 آذار/ مارس

هيفاء وهبي تتألّق بفستان مرصع بالكريستال

GMT 01:41 2020 الأربعاء ,08 تموز / يوليو

تحقق قفزة نوعية جديدة في حياتك وانطلاقة مميزة

GMT 05:58 2020 الخميس ,04 حزيران / يونيو

تعيش ظروفاً جميلة وداعمة من الزملاء

GMT 18:41 2019 الأربعاء ,13 شباط / فبراير

أميركا توسع قائمة العقوبات ضد إيران

GMT 21:49 2017 الإثنين ,11 كانون الأول / ديسمبر

انتقال النسخة الـ23 من بطولة كأس الخليج إلى الكويت

GMT 16:12 2016 الخميس ,30 حزيران / يونيو

أجنحة الدجاج بالليمون والعسل

GMT 09:12 2017 الأربعاء ,04 تشرين الأول / أكتوبر

استبعاد تاج محل من كتيب السياحة الهندي يُثير السخرية
 
palestinetoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

palestinetoday palestinetoday palestinetoday palestinetoday