بقلم:أكرم عطا الله
على ضوء الإشارات التي ترد إلى تل أبيب من أنقرة، عقد وزير الخارجية الإسرائيلية غابي أشكنازي، الأربعاء الماضي، اجتماعاً لدراسة الخطوات التي يمكن أن تتخذها تل أبيب تجاه تلك الإشارات الإيجابية التي تصل من تركيا، والتي يُفهم منها بشكل واضح أنها ترغب بإعادة تطبيع علاقاتها مع إسرائيل. الاجتماع المذكور ترأسه أشكنازي بحضور روبين عازار نائب رئيس مجلس الأمن القومي ومستشار نتنياهو، وممثلين عن «الموساد» ووزارة الدفاع، كان ذلك لفحص المدى الذي وصلت له تركيا ومستوى الرغبة التي بدت واضحة، فيما إسرائيل تمارس الآن نوعاً من الدلال؛ إذ قررت في نهاية الاجتماع ألا ترد بشكل رسمي وعلني على تصريحات الرئيس التركي.
قبلها كان الرئيس رجب طيب أردوغان يصرح «بأنهم معنيون بإيصال علاقتهم مع إسرائيل إلى نقطة أفضل»، ويكشف عن أن العلاقات الاستخبارية بين الدولتين تتواصل كالمعتاد، ولتكشف الأحداث أن رئيس الاستخبارات التركية، حقان فيدان، كان قبل شهر في تل أبيب يلتقي نظيره رئيس «الموساد» يوسي كوهين. والغريب أن أردوغان اعتبر أن العلاقات مع تل أبيب كانت ستكون أفضل لولا وجود أشخاص معينين في الحكم وربما يقصد بنيامين نتنياهو.
هذا الأمر يسبب حرجاً لجمهور الإسلاميين الذين باتوا يستندون إلى الموقف التركي من إسرائيل، والذي أخذ يتصاعد في السنوات الأخيرة ضدها، وهم يفاخرون به باعتباره يعبر عن التيار الإسلامي وشعاراته التي تمسّك بها على امتداد عقود، بل وظهر الرئيس التركي كزعيم للتيار الإسلامي في المنطقة ووجد فيه الإسلاميون متكئاً للتعبير عن تلك الشعارات، لكن تصريح أردوغان يضع الإسلاميين، خصوصاً «الإخوان المسلمين»، في موقف لا يحسدون عليه، خاصة أنه قام قبل ثلاثة أشهر بسحب السفير التركي من أبو ظبي احتجاجاً على تطبيعها العلاقات مع إسرائيل، والآن تعلن أنقرة عن تعيين أفق أولوتاش سفيراً لها في تل أبيب، وقد يصل في آذار القادم.
والأغرب في تصريح الرئيس التركي أنه يعتبر أن سبب الخلاف مع إسرائيل هو وجود «أشخاص»، لا الاحتلال ولا الاستيطان ولا الحصار ولا القدس. وفي هذا ما يجعل الموقف شديد الضعف، وينسحب إلى حد كبير على التيار الإسلامي المعروفة مواقفه تجاه القضية الفلسطينية وتجاه التطبيع مع إسرائيل، مستنداً إلى نصوص دينية وثوابت لا تقبل المرونة، إذ اعتاد الإسلاميون على الوقوف ضد كل محاولات إسرائيل للدخول في المنطقة ومهاجمة أي نظام يقترب منها واتهامه بالتفريط.
الأكثر إحراجاً للإسلاميين وبالتحديد لحركة «الإخوان المسلمين» هو قيام رئيس حزب العدالة والتنمية المغربي، سعد الدين العثماني، بالتوقيع بنفسه على اتفاق التطبيع مع إسرائيل، وهو الذي كان يعد أحد أبرز معارضي التطبيع في المنطقة وكان يمثل موقف الإسلاميين وهم خارج دائرة الحكم. ففي موجة التطبيع المغربي أعاد المعارضون نشر مقال للعثماني كتبه عام 1996 بعنوان «التطبيع إبادة حضارية»، مستخدماً فيه المصطلحات التي تتربى عليها قواعد «الإخوان» وحلفائهم مثل «الكيان الصهيوني، والأمة الإسلامية والعربية، والمكر الصهيوني»، وهكذا...
حين جاء توقيع الاتفاق بهذا الوضوح لم تتسع اللحظة للمناورة أو البراغماتية، فلا خيار أمام العثماني سوى توقيع الاتفاق أو تقديم استقالته وعدم توقيع الاتفاق، إذ إن الأمر هنا لا يحتمل خياراً ثالثاً، فاختار الأول للبقاء في الحكم، وهو ما وجد غطاء له من الأمين العام السابق للحزب عبد الإله بنكيران، بل وكان الاثنان الأمين العام السابق والحالي يجتهدان في تبرير ما فعل الأخير معاكساً «ثوابت الأمة».
النموذج الإسلامي الثالث هو النائب في الكنيست الإسرائيلي، منصور عباس، نائب رئيس الحركة الإسلامية في الداخل. فقد فاجأ كل المراقبين بتقاربه غير المفهوم مع بنيامين نتنياهو حد الدفاع عن الأخير في كثير من المواقف، إلى الدرجة التي هددت القائمة العربية المشتركة التي حصلت على خمسة عشر نائباً قبل حوالى تسعة أشهر في الانتخابات السابقة، والآن بفضل خلافاتها التي أثارها عباس تحصل في الاستطلاعات على أحد عشر نائباً. والغريب ما حدث يوم إسقاط حكومة نتنياهو الذي ساهمت به القائمة المشتركة، حيث تغيّب عباس عن التصويت ومعه النواب الإسلاميون، وهو ما وضعه محل هجوم بأن ذلك تم باتفاق مع نتنياهو. وكان واضحاً أن عباس لا يريد لنتنياهو السقوط بل تقديم الدعم له.
هذه النماذج التي ظهرت ربما في الشهر الأخير بعد موجة التطبيع التي أدانها الإسلاميون بكل قوة، وهي إدانة في محلها؛ حيث التنازل عن أحد أبرز الأوراق ضد إسرائيل أو التعامل معها كدولة طبيعية في ظل الاحتلال ونهب الأرض وتهويد القدس وحصار غزة. لكن الحقيقة التي تنكشف أن الإسلاميين حين يكونون في السلطة لا يختلفون عن غيرهم، وأن فقدانهم للسلطة أهم كثيراً من فقدانهم للثوابت والشعارات.
المشاركون باجتماع الأربعاء في «الخارجية» الإسرائيلية لم يسارعوا لالتقاط رسائل الرئيس التركي، فهم ينتظرون على نار هادئة مزيداً من التنازلات، معتبرين أن أسباب تلك الرسائل هي «الدخول الوشيك للرئيس بايدن إلى البيت الأبيض، والخشية من عقوبات أميركية».
العثماني اختار البقاء في السلطة على الثوابت التي قالها ويقولها الإسلاميون، في حين أن سلوك نائب رئيس الحركة الإسلامية منصور عباس بهذا التقارب مع نتنياهو لا تفهم أسبابه، ولكنها الاقتراب من السلطة وإن كانت سلطة احتلال.
إذا كانت إسرائيل سبباً بانكشاف النظم الوطنية بعد انهيار القومية في العالم العربي، فها هي أيضاً تكشف النظم الإسلامية التي لم تنتظر طويلاً عندما تعرضت مصالحها للخطر والخشية من فقدانها تلك المصالح، إذ أثبتت التجربة أن الثابت الوحيد هو الحكم والسلطة ودون ذلك من ثوابت يسهل القفز أو التنازل عنها..!!!