بقلم : أكرم عطا الله
ما زالت البشرية في حالة صدمة من هذا الوباء الذي اجتاحها فجأة.. كيف انتشر وبهذه السرعة، عدد الإصابات، وعدد الأموات؟ الوقوف في حالة عجز أمام عدو أخطر ما فيه أن العالم أشغل نفسه بالتجهيز لكل المعارك المسلحة والاقتصادية والنفسية، لكن مرضاً غامضاً ومباغتاً جعل كل تلك الإمكانيات تبدو لا قيمة لها، وما زالت أعداد الخسائر البشرية في ارتفاع. هو أكبر من كل الحروب في خسائره المالية والنفسية والاجتماعية، حيث كانت تتكفل الجيوش بالمعارك وحدها، ولكن الآن تنهار المصدات النفسية للمجتمعات وأرقام البورصات وكأن كل ما جرى من إنفاق لتعزيز مناعات الشعوب والدول ذهب باتجاه آخر.
منذ بدأت الصراعات بين البشر، كان الاقتصاد يتبع الجيوش أو يذهب خلفها ليحصد آثار الحروب بعد أن تتوقف، ومع الزمن أصبح المال والاقتصاد يتحرك بالتوازي مع الجيوش، وفي العقود الأخيرة أصبح هو من يحرك هذه الجيوش ويثير الصراعات من جديد، فقد اختلت كل المعايير لتفتح على زمن مختلف عمّا عرفته الحضارة. قاد رجال المال سياسيي العصر أو تقدم المال محل السياسيين ليدير بنفسه كما الحالة الأميركية، فذهب نحو بشرية مختلفة فقدت هيبتها أمام الأرقام والبورصات التي أصابها الفيروس بانتكاسة كبيرة، في عصر أصبحت الأرقام أكبر من أن يستوعبها العقل البشري، قديماً كان معيار الثراء يسير باتجاه العمل والكد والزراعة والصناعة وبالتراكم البطيء أصبح اليوم بضغطة زر، ومن الطبيعي أن تجد من يعمل لعقود ليتمكن بالكاد من تأمين منزل، وعلى الجانب الآخر من لم يبدأ حياته بعد يصبح مليونيراً مطلع العمر.
أفسحت الصناعة والزراعة، وهما أساس تطوير الحضارة وإنتاج قيمها، الطريق للتكنولوجيا ورجالها. وليس من المصادفة أن أبرز مليارديرات العالم هم رجال التكنولوجيا وفي هذا خلل ربما يكاد يعصف بمنظومة القيم التي تراكمت منذ آلاف السنين نحو عالم فقد إنسانيته، أمام كل هذا التطور والذي أخضع السياسيون عبيداً لديه ليأخذنا إلى عالم مختلف. وفي السياق، يتراجع العلم ومكانته كأساس التطور المناعي وتحقيق الرفاهية، وتراجعت مكانة العلماء والتعليم، فالممثل التلفزيوني ربما يحصل على عقد سنوي يعادل رواتب كل الأطباء في أكبر المستشفيات، ويمكن لشاب هاو في علوم البرمجيات، في العشرين من عمره، أن يصبح مليونيراً خلال أسابيع، وكيف يمكن أن تصل ثروة فرد إلى ما يفوق موازنات عدة دول مجتمعة؟
حين كنا طلاباً في الجامعة، جاء أستاذ اللغة الانجليزية ليختبر لغتنا، فكتب على السبورة ما ترجمته «إن ما ينفقه العالم على التعليم والصحة والمأكل والسكن يساوي ما ينفقه العالم على التسلح خلال أسبوعين». لم نفكر كثيراً في الترجمة، بقدر ما أن الجملة التي كان هو قد قرأها للتو في إحدى المجلات الأجنبية كانت صادمة. فماذا يعني أن يكون سعر الطائرة الحربية مساوياً لمساكن لكل مشردي المدينة؟ وماذا يعني أن تساوي الدبابة طعاماً لآلاف البشر؟ ولماذا؟ ألم ينشئ العالم الأمم المتحدة بعد حربه الطاحنة لحل المشكلات بالسلم ووقف الحروب؟
إذاً هناك شيء خاطئ في إدارة السياسة على مستوى العالم، فالعقل البشري الذي وصفه «توماس هوبز» هو النموذج الذي أصبح يتسيّد فكرة العلاقات بين البشر، ولكن بشكل أكثر شراسة، لتصبح التكنولوجيا في خدمة هوبز. وهنا الكارثة التي تتحقق في العقود الأخيرة وكأن هذا الوباء جاء ليحدث الصدمة اللازمة والضرورية لها. يقف السياسيون عراة أمام شعوبهم، خصوصاً الشعبويين منهم، مضطرين أمام صدمة الوضع الراهن لأن يستدعوا بعض العقلنة التي سحقتها شعاراتهم السابقة والتي تظهر سطحية ما طرحوه مستندين لسطوة القوة، وتلك التي تقف الآن بكل الوهن أمام خطر بهذا المستوى، حين يهرب رئيس أركان مذعور من العدوى، ويتلعثم رئيس وزراء قاد أسلافه من موقعه حروباً غطت الكرة الأرضية وفرشتها بالدم وهم يرتشفون القهوة.
كل شيء أصابه العطب وكأن هذه المنظومة المختلة التي كانت تسير بتسارع شديد تلقت رصاصة في قدميها، وهنا لا بد من التفكير، كما علّمنا التاريخ، بأن العالم ما قبل الحروب ليس هو العالم بعدها، فالحرب تحدث هزة للضمير الجمعي وتعيد إنتاج منظومة قيم أكثر إنسانية؛ لأن البشرية في الخسارات تدرك أهمية الإنسان أكثر، بعد أن تكون قد تناسته في ذروة نهمها بجمع المال.
تشكلت الأمم المتحدة بعد حرب دمرت أوروبا، ولكنها ضعفت بعد خمسة عقود أو أكثر قليلاً منذ حرب العراق التي تمت رغماً عنها، كأن تلك الحرب كانت تعلن بداية غروبها ومعها كثير من المؤسسات. أصبحت أوروبا أكثر إنسانية بعد الحرب، ولكنها تقف عاجزة متواطئة إلى حد ما أمام صراعات الكون واحتياجات البشر، وأصبح العالم شديد التناقض: هدوء ممل هناك وصراعات دموية بلا توقف هنا، ثراء فاحش في جزء من العالم، وفقر شديد على الجزء الآخر، تسليح وقوة تحتكرها دول وضعف شديد يعتري دولاً، دول ومؤسسات مدهشة ودول تعيش عصر القبيلة، وكل النظام الدولي يقف عاجزاً أمام اتساع الهوة، بل يدفعه رأس مال ليغرق أكثر في الهوة نفسها.
الفيروس الذي أصاب البشرية سيفعل فعله في إعادة تصويب الضمير العالمي، أغلب الظن أن الرجة التي أحدثها لن ينتهي مفعولها بعد انتهاء الوباء، بل ستترك ارتدادها الهائل على شكل النظام العالمي الذي يبدو كأنه وصل إلى نهايته، فمن كان يتصور في عصر العولمة والانفتاح أن تغلق كل دولة حدودها على نفسها خوفاً من الآخر.. أي آخر؟ الدرس الأبرز في هذه الهزة التي أصابت الجميع، وهو ما يجب أن يبدأ التفكير به، هو سؤال موازنات وزارات الصحة قياساً بالأمن، وهذا السؤال مطروح على العرب والفلسطينيين أكثر، فالشعوب هي مالكة الدول ويجب ألا يترك هذا الأمر بلا رقابة الشعوب. من الآن فصاعداً من المهم أن يعاد قلب الأولويات وضخ موازنات أكبر للصحة بدل الأمن ودور أكبر للعلماء والمختبرات العلمية وليست الجيوش التي باتت تخشى التجمعات وتخشى الحروب، فلن يكون لها لزوم لو حلت البشرية قضاياها بالسلم كما النموذج السويسري، أما التداعيات الأخرى على مدى سنوات ستكون محل أبحاث، فالعالم قبل «كورونا» ليس كما بعده.
قد يهمك أيضا :
انتخابات إسرائيل بين العسكر والأيدولوجيا..!!
المرأة... الوردة المظلومة في يومها...!