بقلم : نسيم الخوري
أضاعت الدول سندات ملكيّة الكواكب فيما بينها، وبات التنافس والتقاتل والتصافح على أسرار لفّ التاريخ تحت إبط الأباطرة أوهاماً قاتلة، وبدت الإمبراطوريات العريقة تعدو فوق قوائم من صلصال، وتجمّد الزمان حاجراً البشرية تنتظر بعيون زجاجية ما ستفعله أوروبا أو أميركا أو بريطانيا أو روسيّا وغيرها ومعظمها تنتهي بالألف.
لماذا تْنكس ألف العظمة الدوليّة؟
لأنّ تقصيراً لرؤساء الدول جعل جرثومة خفيّة تنهش أنفاس الناس وتكشف عري الأنظمة والسلاطين والحكام وتسحب بقايا البشرية نحو التمسّك بالجذور أي Roots بالإنكليزية.
ولأنّني أتذكّر، في عزلتي، فاسكو دو غامّا الأوّل البرتغالي الذي سلك الطريق نحو الهند بعدما دار حول رأس الرجاء الصالح في إفريقيا العام 1498 مستعيناً بالعرب ليهتدي طريقه في مجاهل المحيط الهندي نحو أقصى الشرق.
ولأنّني أتذكّر أيضاً، البحّار الإيطالي خريستوف كولومبس (1451 - 1506) الذي أبحر من يالوس في 3 آب 1492 قاصداً الهند لكن من ناحية الغرب عابراً الأطلسي في دورة نحو الجنوب والشرق حول إفريقيا ليقتنع بأنّ الأرض مستديرة، لكنّه وصل الى سان سلفادور ووجد نفسه في أميركا في 12/10/ 1492 فسمّى الشعوب التي اكتشفها في أميركا هنوداً، وجزم بكرويّة الأرض مع أنّه لم يصّل أبداً إلى الهند.
ولأنّ عصر العولمة الأميركية، قد بسط كوكب الأرض أمام البشرية وقد «صار العالم مسطّحاً»، وفقاً للكاتب توماس فريدمان، في مؤلّفه: «The world is Flat»، وقد ذهب هو والبشرية مثله مباشرةً من جهة الشرق نحو الهند والصين والشرق الأقصى.
ولأنّه بات علينا فهم العالم المتغيّر أمامنا كما هو، لا كما كان يجب أن يكون عبر تواريخ الدول الكبرى وزعمائها الذين لا تحوق تواريخهم الصفات السلبيّة،
ولأنّ الشعوب قد تذهب في طريقٍ آخر معاكس لما رسّخته مفاهيم الدول الكبرى ركائز للحضارة، ولأنّ الإنسان المعاصر يخرج حالياً من الأقفاص الغربيّة وحظائرها في التفكير كما من جنون العصور المقفلة القديمة في مقدّسات القوّة والعظمة ونفخ التواريخ المظلمة باسم العدالة الزائفة، نرى البشريّة مشغولة في البحث عن جذورها الوطنيّة الأصيلة التي يصيبها التلف، لكنها قد تفرّخ من جديد!
لنعترف جميعاً، بأنّ الكتابة شاقّة، في معترك الـ»كورونا» الذي تغرق فيه النصوص وتتوه الأفكار والاجتهادات وتقوى المتناقضات. هذا زمن لا يمرّ كلّ يوم ولن تعرفه سوى الأجيال المحظوظة أو السيّئة الحظوظ. إنّه زمن وعالم مثير للاهتمام لأنّه يُظهر، أوّلاً، حيرة علمية كونيّة عميقة لم تفسّر بعد، وثانياً لأنّ المشكلات العالميّة والسياسات الدوليّة والمحاولات الوطنيّة تتراكم وتفشل وتنذر بانهيارات ضخمة منتظرة لها تحدّياتها الفيزيائية الحيوية والجديدة تماماً، وثالثاً، وهو الأهم ربّما، إذ تكتشف الجماعات العلميّة والبشرية طريقة حياة للكوكب الأرضي في تفاعلاته الفيزيائية والبيولوجية لم تعهدها البشرية من قبل ولم يأخذها العلماء ولا الأنظمة ولا التقدّم العلمي بالاعتبار/ اعتبار المستقبل. لنقل أنّ كل الفرضيات والنظريات التي نضيع في متاهاتها، تلقى، اليوم، تحدّيات يصعب توقّع تداعياتها الطبيعية في عالمٍ يتغيّر قطعاً وسيتغيّر أكثر فأكثر بعد الـ»كورونا».
صحيح أنّ المناخ العام العالمي مشحون بالاتهامات والاتهامات المضادة بين الدول العظمى المنهكة، وصحيح أنّ الوضع يرسو ثقيلاً فوق صدور البشريّة أثقل من تطاير حبيبات الـ»كورونا»، لكنّ الأسلم لي، أن أذهب، من هنا، إلى التنويه بمقاربة جديدة أتوخّاها تبحث في مفهوم جديدٍ للتاريخ الشمولي أو الكلّي الذي أحسن الاهتمام به، المؤرّخ الشعبي الفرنسي فرانسوا ريناير في كتابه الذي عصر عبره 5000 سنة من تاريخ القارّات بعنوان: La grande Histoire du Monde أي «تاريخ العالم الكبير».
من هنا، قد لا يشكك أحد بقدرات الصين العسكرية المذهلة، وبراعتها التكنولوجية واقتصادها النامي الذي سمح لها في لحظةٍ ما أن تفكّر بقذف الكرة الأرضيّة إلى فوق أو دفعها لأن تخرّ حتّى على ركبتيها. لكنني أسأل: ما هي جذور هذه النهضة المفاجئة الضخمة التي أتت من أقاصي الشرق؟ وكيف يمكن لدولةٍ مثل الصين، كانت منذ قرون متخلّفةً يابسةً ويتحرّك أهلها بالملايين فوق العجلات، أن تنجح في تحقيق هذا التقدّم الهائل في ثلاثة قرون؟
أعتقد بأنّ الصينيين تحديداً، لا يطرحون أسئلةً من هذا النوع، ولا ربّما من الزوايا نفسها. هناك صورة تاريخيّة قديمة مقيمة في رأس كلّ صيني تكاد تقرب من الحقيقة هي الحلم الإمبراطوري القديم الذي يعيش في أعشاش الذاكرة الجماعية المتناقلة عبر الأجيال والمدارس.
كانت الصين، من أعرق الحضارات حتى نهاية القرن الثامن عشر، بقواها الاقتصادية والتجارية العالميّة، وقد انهارت بين أصابع بريطانيا التي لم تكن تغرب عن مستعمراتها الشمس وقد أفلت لتحلّ مكانها القوى العظمى الأخرى في منتصف القرن التاسع عشر. لطالما كان يدرك الصينيون أنّ دولتهم، حتّى الأمس وربّما اليوم، لم تفعل سوى إغلاق القوس الحافل بالآلام كي تجد «مطرحاً» لها فوق منصّة الدنيا، وهو أمر طبيعي وكان كذلك على الدوام.
لقد تحوّلت أوروبا إلى قوة هائلة دفعتها لأن تحتلّ معظم الكرة الأرضية منذ القرن السادس عشر، لكنّ انتشارها العظيم وعظمتها اندثرتا في القرن العشرين مع ركام الحربين العالميتين ومخلفاتهما. بعد ذلك، جاء دور أميركا والاتحاد السوفياتي بعظمتيهما لتتقاسما الكرة الأرضية مجدّداً، باسم منظومتين موروثتين أساساً من العقل الأوروبي الذي استمرّ يعتبر أنّ معرفة تاريخ أوروبا وثقافتها وقوّة عقلها هي مسائل كافية لفهم العالم وكأنّها طريقة التفكير السامية والوحيدة التي تسمح بتعبيد طرق السيطرة على الآخرين.
لقد فكّك سقوط الاتحاد السوفياتي (1989) الصادم هذه الثنائية للعالم، ودفن الادعاءات التاريخيّة بأبديّة العظمة، وراحت البشرية تنتظر، في كلّ لحظة، قوى قديمة جديدة ناهضة مثل الصين والهند والبرازيل وإفريقيا الجنوبية وأندونيسيا وغيرها من الدول الإسلامية، ومعظمها كانت تتململ وتغلي في قدر عالمي يضجّ بآليات مجابهة العظمة الدولية وحتّى تفكيكها بحثاً عن المتغيّرات الآتية مهما كانت.
لم يتغيّر العالم كثيراً، في تقديري، مع «كورونا» لكنّه يتغيّر قبلها ومنذ عقود وسيتغيّر أكثر فأكثر. منذ تشظيّات العظمة المتعدّدة وبروز شهيّاتها ومخاطر تجدّد صراعاتها وحروبها في أكثر من ناحية في الأرض كما في الفضاء، وتلويحاتها النووية، كانت البشرية أمامنا ويدها على قلبها، وكنا على يقينٍ كامل بأن العالم قد تغيّر وأنّ البراعة هي في «الاستمرار باكتشاف هذا العالم الذي هو بحاجة دائمة الى الكشف»، على حدّ تعبير الشاعر الفرنسي رينيه شار.