بقلم : غسان زقطان
في متوالية بسيطة ومتكررة تصل إشارات عن تفاصيل "الخطة" التي منحها الرئيس الأميركي "ترامب" اسم "صفقة القرن"، إشارات على شاشة صغيرة قادمة من الفضاء، إشارات يصعب تحليلها متروكة لمخيلة الجالسين أمام الشاشة، وتنبؤات الأكثر حكمة منهم، والأكثر معرفة في تفكيك الألغاز، أو المكلفين بحل المستعصي على العامة من مسائل الحكم. الأمر برمته يدور حول إذا كانت ما
هذه الإشارات تحمل أخباراً عن إمكانية الحياة في الكوكب الجديد الغامض والذي يزداد غموضاً كلما تجددت الإشارة، أو في الأقل العثور على ما يشي بذلك. بين وقت وآخر يقفز أحد المشاهدين في الغرفة ويشير نحو عنصر جديد ظهر في الصافرة، إضافة مقطع، تردد أطول، خشخشة في مكان ما من الصافرة.. أشياء من هذا القبيل يلتقطها عادة العارفون وأصحاب الخبرة.
حتى أولئك الذين رفضوها برمتها، (الخطة)، ويرفضون تصديق إمكانية الحياة على الكوكب المقترح، يواصلون البحث بين الإشارات ومقاطع الصفير وفوضى البنود والمساحات والأفكار، التي تتغير في كل مرة، عن ثغرة صغيرة يمكن الاحتماء بها أو الالتجاء إليها حين تتضح الأمور. الجميع تقريباً هناك يتكومون أمام الشاشة الصغيرة التي ترسل إشارات. الجميع، تقريباً، يتلقفون موجات الصفير
ويحاولون الاحتفاظ بالصوت وتقليده، كما لو أن حياتهم تتوقف على ذلك. الذين يرفضون ويكيلون الشتائم لكل شيء، أو المتبطلون الذين يواصلون الندب، أو أولئك الذين يبحثون عن طوق نجاة لإنقاذ فكرتهم عن أنفسهم. رغم أن "الحادث" يتراكم في الجهة الأخرى، خارج الشاشة وخارج الغرفة، بالضبط وراء النافذة، في الشارع حيث يمشي الناس ويعملون.
لا أحد يجرؤ على مغادرة الغرفة لئلا تصل إشارة جديدة. لا أحد يفكر بالنظر من النافذة نحو الشارع. في فترات انقطاع البث، عندما تصبح الشاشة بيضاء وصامتة، يمكن أن يسمع صوت من الغرفة، وخشخشة أقرب إلى تشويش طويل، كما لو أن هناك من يعيد تسجيلات قديمة على أشرطة مستخدمة، أصوات لموتى يقولون جملاً متشابهة، مقاطع من جمل مكررة لأشخاص ميتين، أو في طريقهم
إلى الموت. بينما لا أحد يفكر أن الناس وراء النافذة يواصلون حفر حيواتهم دون توقف ودون انتظار ودون غموض.
لا أحد يريد أن يعرف أن الناس هم الإشارة
لا أحد يريد أن يتذكر أن الناس هم الوقت.
قد يهمك أيضا :
لجنة المهرجان تختار غسان زقطان رئيسًا فخريًا لـ"أيام الأدب العربي في برلين"
حول سياسة "الانتظار" ونظرية "قلة الحيلة"