بقلم : غسان زقطان
في طفولتي وحتى سنوات متأخرة من شبابي المبكّر كنت أميل للعراك، العراك مع كل شيء تقريبا؛ أشجار الكينا المعمرة في مخيم «العروب» شمال الخليل، وأشجار السدر الشرسة في مخيم «الكرامة» شرقي النهر، الكروم في قرية «الشيوخ» ومقالع الحجر في «بيت فجار»، المزارع والبيارات ونواطير الكروم وحراس الأشجار، مع الأولاد بأنواعهم في محيط عشر حارات، والمدرسين ووظائف المدرسة وبرك الري والملاريا.
لدي قائمة متراكمة من الاعتذارات المؤجلة تبدأ في كروم الخوخ والدراق في قرية «الشيوخ»، ولا تنتهي في السكن الداخلي لقسم التربية الرياضية في معهد ناعور ومدرسة مخيم شنلر/ماركا.
عراك متواصل تتخلله حياة ويأخذ في كل محطة طرائقه وأدواته.
استطيع أن أتذكر ندوبا كثيرة كما تتذكر شجرة الحلقات التي تتركها السنوات في جذعها.
كان هذا الميل أحد أسباب قلق والدي الكثيرة وهماً راسخاً من هموم أمي.
كان الأمر يشبه حاجة تنبع من الداخل وتتنفس في المحيط.
أشبه بنداء أو رغبة عميقة بكماء وغامضة.
لا أتذكر كيف توقفت عن العراك، وكيف تراجعت تلك الرغبة وخفت النداء الغامض، ولكنني في أحيان كثيرة كنت أنتبه لذلك الغياب.
ربما في حرب تموز على أنقاض بناية «رحمة» في الفاكهاني في بيروت، كان هناك عشرات الأصدقاء والرفاق يموتون على مسمع منا تحت أكوام الاسمنت المسلح وأثاث المكاتب، وتحت في القبو الهائل حيث تحطمت مكائن الطباعة والتجليد والرصاص المصهور في آلات الصف القديمة.
أتذكر ذلك القبو المزدحم دائما، بإضاءته الصفراء الشاحبة المترددة، وضجة المكائن الرتيبة، ورائحة الرصاص المصهور وهو ينسكب في قوالب الحروف، وأكداس الورق في الزوايا وأكواب الحليب التي كان يتناولها عمال الطباعة لمقاومة بخار الرصاص. كان علي أن أكون تلك الصبيحة معهم، تأخرت في النوم، هذا ما حدث ببساطة، لم ينج أحد سواي بسبب أنني لم أصل القبو في الساعة العاشرة.
كانت أصواتهم تصل أحيانا، أصواتهم المختنقة والخائفة المذعورة واليائسة المتسائلة المذهولة، التي أستطيع تمييزها الآن، بينما يحاول البعض حفر ذلك الاسمنت المحطم بأظافره.
ربما في «حرب الجبل» على الطريق الذي ينحدر في الوادي قبل أن يصعد نحو «بيصور».
أو قبل ذلك في حصار بيروت حين وجدنا أنفسنا، غالب هلسا وأنا، في حقل ألغام في «الأوزاعي».
في أحيان أحيل الأمر الى الخذلان، الخذلان بأقاليمه المترامية، أو الإيمان بأن على الأشياء أن تحدث على هذا النحو لأن ثمة أشياء أخرى تنتظر أن تحدث بدورها، شيء من التأمل غير المقصود، التأمل الذي نبت مثل حقل أعشاب هشة بسبب الكتابة ورفقة الكتب.
الخيانة وموت الأصدقاء والسفر وحظ أن تبقى حياً بعد كل هذا.
النهايات التي تنمو في الضباب بموازاة الشغف، قبل أن تظهر من العتمة مثل خط طويل من الجدران الصماء المغلقة.
قد يهمك أيضا :
بيت جالا/ الفصح
أربعة خيول تصعد الطريق