بقلم : عادل الأسطة
أصدرت أحلام مستغانمي ثلاثيتها خلال عشر سنوات على النحو الآتي:
1 - «ذاكرة الجسد» 1988 (زمن الانتهاء من كتابتها، وقريبا من هذا العام يتوقف زمن السرد)/ 1993 (زمن نشر الطبعة الأولى).
2 - فوضى الحواس (1997 زمن الكتابة/ 1998 زمن النشر).
3 - عابر سرير (زمن الكتابة 2002/ زمن النشر 2003).
وتختار في الجزء الأول شخصية جزائرية شاركت في حرب التحرير، وبترت يدها، لتروي حكايتها التي لا تنفصل عن حكاية وطنها في سنوات الثورة وهي في عنفوانها، وحكايته في السنوات التي تلت الاستقلال حتى العام ١٩٨٧.
خالد بن طوبال شارك في الثورة وفي عهد الاستقلال، عمل في مؤسسات الدولة الجزائرية لفترة، ثم قرر الهجرة إلى باريس، فما آلت إليه الثورة في زمن الاستقلال، وما غدت عليه الدولة لم يرض تطلعاته الثورية، إذ خابت طموحاته.
يهاجر خالد إلى فرنسا وينزوي في شقة في باريس يمارس الفن ويغدو رساما مشهورا. وثمة سبب آخر لتركه الوظيفة، فقد كره الجلوس على القمم التي يسهل السقوط منها، و»كره خاصة أن يحوله مجرد كرسي يجلس عليه إلى شخص آخر لا يشبهه».
على الرغم من إقامة خالد بعيدا عن الجزائر إلا أنه يظل يحن إليها ويحن إلى ماضيه وإلى الطفلة حياة التي شهد ولادتها، وكان رسول أبيها المجاهد المقيم في تونس والمطارد من القوات الفرنسية التي كانت تجثم على أرض الجزائر.
تغدو حياة، على الرغم من الفارق الزمني بينها وبين خالد، حبه فيكتب إليها الرسائل من منفاه الاختياري.
تعرف خالد، في أثناء عمله في الجزائر في دائرة المنشورات، إلى شاعر فلسطيني اسمه زياد الخليل، يعلم في الجزائر، وله ديوانا شعر يرغب في طباعتهما؛ عنوان أحدهما «مشاريع للحب القادم».
يعرض زياد في لقائه الأول بخالد في العام ١٩٧٢ أحد ديوانيه على خالد، بصفة الأخير المسؤول عن النشر، فيقرأ الديوان ويعجب به، ولكنه يقترح حذف بعض مقاطع وعبارات، فيحتد الشاعر ويرفض بتر أي جزء من الديوان، ويخاطب خالدا بقدر من القسوة «لا تبتر قصائدي سيدي. رد لي ديواني، سأنشره في بيروت». يوافق خالد على نشر الديوان «حرفيا»، وتنشأ بين الاثنين صداقة وطيدة ويصبح زياد تدريجيا «صديقي الوحيد الذي أرتاح إليه حقا»، وتتعمق الصداقة لدرجة أن خالدا حين تزوره حياة في باريس وتنظر في مكتبته يقترح عليها أن تقرأ أشعار هذا الشاعر الفلسطيني، وفي فترة لاحقة، حين يزور زياد باريس، يلتقي الثلاثة معا، ويزداد إعجاب حياة بزياد لدرجة استثارة غيرة خالد منه، مع حبه له واعتزازه بصداقته.
كان زياد، كما ذكرت، تعرف إلى فتاة جزائرية وقررا الزواج، ثم تراجع عن فكرة الارتباط بامرأة وقرر العودة إلى بيروت مفضلا النضال الوطني من خلال فصيل الجبهة الشعبية على الاستقرار والحياة العائلية.
يتوزع حب حياة على اثنين هما خالد وزياد، فهي لا تحب قصص الحب الثنائية وتفضل عليها الثلاثية - لعل هناك دلالة رمزية تتمثل في حب الجزائرية الجزائر وفلسطين معا.
والسؤال هو:
ما الصفات التي تسبغ على زياد الفلسطيني؟
يتميز زياد بحس ساخر، وهو فلسطيني لا يريد أن يقتل في داخله ذلك الفلسطيني المشرد، إذ لو فعل ذلك لن يكون لأي شيء يمتلكه قيمة، ومن هنا تراجع عن فكرة الزواج.
يبدو زياد، مثل أبطال جبرا إبراهيم جبرا الفلسطينيين، محبوبا من النساء «من الصعب على امرأة عرفت رجلا مثل زياد أن تنساه».
ويبدو لخالد إنسانا مدهشا، وقصائده التي يكتبها يكتبها كما يطلق بعضهم الرصاص في الأعراس والمآتم ليشيعوا حبيبا أو قريبا. لاحقا يشيع زياد الشعر مقسما أنه لن يكتب سوى بسلاحه. وهنا طبعا نتذكر الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود الذي حقق ذلك من قبل، وحين سألت الشاعر أحمد دحبور عن شخصية زياد الخليل أخبرني أنها شخصية حقيقية.
الفلسطيني محبوب، وهو منتم لوطنه بالدرجة الأولى، ويقرن القول بالفعل وصديق يعتز الآخرون بصداقته، ويظل مخلصا لصديقه، فحين يغادر الجزائر إلى بيروت يواصل كتابة الرسائل لخالد.
يقدم خالد الوصف الآتي لزياد، ولسوف أنقله على الرغم من طوله:
«مازال شعره مرتبا بفوضوية مهذبة. وقميصه المتمرد الذي لم يتعود يوما على ربطة عنق، مفتوحا دائما بزر أو زرين، وصوته المميز دفئا وحزنا، يوهمك أنه يقرأ شعرا، حتى عندما يقول أشياء عادية. فيبدو وكأنه شاعر أضاع طريقه وأنه يوجد خطأ حيث هو».
ولنا عودة إلى الفلسطيني الشاعر وحضوره في الروايات العربية.
ويتابع خالد في رسم صورة زياد:
«في كل مدينة قابلته فيها، شعرت أنه لم يصل بعد إلى وجهته النهائية، وأنه يعيش على أهبة سفر».
وأيضا:
«كان حتى عندما يجلس على كرسي يبدو جالسا على حقائبه. لم يكن يوما مرتاحا حيث كان، وكأن المدن التي يسكنها محطات ينتظر فيها قطارا لا يدري متى يأتي».
وفوق ما سبق يبدو محاطا بأشيائه الصغيرة، ومحملا بالذاكرة، ومرتديا سروال الجينز نفسه، كأنه هويته الأخرى.
كان زياد يشبه المدن التي مر بها. فيه شيء من غزة، من عمان، ومن بيروت وموسكو، ومن الجزائر وأثينا.
كان يشبه كل من أحب. فيه شيء من بوشكين، من السياب. من الحلاج، من ميشيما. من غسان كنفاني .. ومن لوركا وثيودوراكيس.
إنها صورة مشرقة ما بعدها إشراق.
قـــد يهمــــــــك أيضــــــاُ :
أحلام مستغانمي " لا يستطيعون منع الربيع من القدوم"
صورة الفلسطيني في رواية زينب حفني «سيقان ملتوية»