انتهت «ذاكرة الجسد» بعودة زياد من باريس إلى بيروت واستشهاده في 1982، فهل غاب عن الجزأين الأخيرين، وقد كتبا في 1997 و2002؟
يموت خالد بن طوبال الذي، كما زياد، قاتل من أجل تحرير الوطن قبل استقلال بلاده، في باريس ويعود جثمانه إلى الجزائر ملفوفا بعلم بلده.
تشهد نهاية 80 وفترة 90 ق 20 تغيرات لافتة في المشهدين الفلسطيني والجزائري، فقد وقع الفلسطينيون اتفاقية أوسلو مع إسرائيل وقبلوا بحل لا يرضي أدنى طموحاتهم الوطنية، واندلع في الجزائر عنف أدى إلى سقوط مئات المواطنين ودخلت البلاد في مرحلة أشبه بحرب بين النظام الحاكم ومتشددين إسلاميين، وما عبر عنه بعض كتاب
جزائريين، في 70 ق 20، من خيبة خجولة من الثورة المنتصرة على فرنسا وعدم تحقيقها ما طمح الثوار إليه، وتجسد في شخص خالد بن طوبال، يبدو في كتابات 90 ق 20 صريحا قويا، وقد دفع بعض الكتاب حياتهم في تلك الأوضاع.
هذه المتغيرات تركت تأثيرها على مستغانمي، فأصبح زياد الخليل وخالد جزءا من ذاكرة يحن إليها باعتبارها الماضي الجميل مقابل الواقع البائس، وربما صارا «كائنين من ورق» وهو تعبير حياة.
تلتقي حياة في «فوضى الحواس» بصحافي يحمل اسم خالد بن طوبال، ويساعدها في إعادة جثمان خالد بن طوبال الفنان إلى الجزائر، ويبدي إعجابه فيها، ولكنه يغار لا من خالد الفنان وإنما من الفلسطيني ويعترف لها بهذا، وهنا تقول له:
«- أيها المجنون .. هذا الرجل لم يوجد أبدا. لقد أوجدته، لأنني أحب قصص الحب الثلاثية الأطراف. وأجد في قصص الحب الثنائية، كثيرا من البساطة والسذاجة التي لا تليق برواية. ولذا كان يلزمني رجل يعيش بمحاذاة تلك القصة قبل أن يصبح هو بطلها. لأن هذا هو منطق الحب في الحياة، نحن نخطئ دائما برقم».
وعلى الرغم من قولها إن زيادا كائن من ورق إلا أن الصحافي يقول:
«- وبرغم هذا أحسده. كنت أريد لي قدرا مطابقا لقدره، حتى إنني أحفظ أشعاره. ما زلت أحلم بحب كبير .. بقضية كبرى، وبموت جميل».
الفلسطيني الثوري والجزائري الثوري هما قضية كبرى وموتهما دفاعا عنها هو موت جميل.
تعقب حياة على كلام الصحافي مشيرة إلى الفرق بين زمنين؛ زمن الثورة وزمن التراجعات قائلة:
«- ولكن انتهى زمن الموت الجميل. لم يعد بإمكان أحد الآن حتى في رواية، أن يموت في معركة كبيرة. لقد أفلست جميع قضايانا، ولذا أحببت أن يموت زياد أثناء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت».
وترى أن العمر لو امتد بزياد لربما عاد إثر اتفاقات أوسلو مع من عادوا ولصار شرطيا يسجن أو يعذب فلسطينيين آخرين بتهمة المس بأمن إسرائيل أو لكان الآن في سجون السلطة. «كم من الأوهام ماتت معه. فبعده، لم يعد ثمة شيء اسمه فلسطين».
في «عابر سرير» يظل زياد حاضرا في ذاكرة الرسام الثوري، ففي أثناء لقاء الخالدين؛ خالد الرسام وخالد الصحافي، وفي مقابلة يجريها الثاني مع الأول قبل موته، يتعرضان لما آل إليه خالد الرسام وموقفه من حاضره وماضيه وعلاقته بالأصدقاء.لقد عاش الرسام زمن الثورة وشارك فيها واستمرت حياته إلى زمن آخر لا يمجد فيه المناضلون وإنما
تقزم قاماتهم. هنا يتذكر خالد زيادا صديقه الأخير.
يوجه خالد الصحافي لخالد الرسام الأسئلة الآتية:
- ألا تخشى ألا يبقى لك صديق بعد هذا؟
- وكيف تعيش بدون أصدقاء؟
- أنت إذن تعيش وحيدا؟
وهنا يرد خالد مبتسما:
«- أبدا. أنا موجود دائما لكل من يحتاجني، إني صديق الجميع ولكن لا صديق لي. آخر صديق فقدته كان شاعرا فلسطينيا توفي منذ سنوات في بيروت أثناء الاجتياح الإسرائيلي. لم أجد أحدا بعده ليشغل تلك المساحة الجميلة التي كان يملؤها داخلي. معه مات شيء مني. ما وجدت من يتطابق مع مزاجي ووجعي».
اللافت في الرواية يتمثل في قول خالد عن بدايات الثورات ونهاياتها:
«لكنك توافق من يقول إن الثورات يخطط لها الدهاة، وينفذها الأبطال، ويجني ثمارها الجبناء؟».
ولطالما تحسر ثوريون فلسطينيون على الماضي.
لم يحضر زياد الخليل في الرواية وحسب، فلقد حضرت فيها أشعار محمود درويش. ويمكن القول إنه يعد أبرز شاعر فلسطيني كان لأشعاره حضور متميز في الرواية العربية، وهنا يمكن اعتباره وشعره نموذجا للفلسطيني ذي الكاريزما الخاصة التي أظهرت لنا صورة مشرقة في زمن صعود الثورة وفي زمن تراجعاتها وتراجعات الثورات العربية وسوء مآل الواقع في العالم العربي منذ توقيع اتفاقية (كامب ديفيد) والحروب العبثية التي خاضتها بعض الأنظمة وما زالت تخوضها.
ظلت أشعار محمود درويش تحضر بشكل لافت، ومن المقاطع التي حضرت مقطع من «مديح الظل العالي».
تأثر الكاتبة بأشعار الشاعر يبدو تأثرا يدل على قراءة وتمثل. وقد لا يلحظ هذا إلا قارئ متابع لأشعار الشاعر، فهي لا تورد فقرات مباشرة تضعها بين علامات تنصيص إلا نادرا ، غير أن بعض عبارات الشاعر وبعض موضوعات شعره، مثل الكتابة عن المطار والمودعين وتساقط الجثث يوميا، تتسلل إلى الثلاثية.
في «عابر سرير» تحضر أسطر من «مديح الظل العالي» 1982:
«- في الفترة الأخيرة أصبحت مصابا بعمى الأطراف. ما مررت بشيء إلا واصطدمت به. دعك من جمعه .. ستحضر الممرضة للملمته. إنه ورد فقط وهو آيل للذبول!
ثم أردف بتهكم وحده يتقنه:
- حتى وإن سقطت ذراعي .. حاذر أن تلتقطها.
- أنت تعاكس قصيدة محمود درويش.
«سقطت ذراعي فالتقطها
وسقطت جنبك فالتقطني»
قاطعني مواصلا:
- «واضرب عدوك بي»
- أتعرفها؟
رد مبتسما:
- أعرفها؟ كم أعرفها! كانت القصيدة المفضلة لصديقي زياد. كان دائما يقول: ليتني كاتبها، فأعلق «لا تهتم .. إن سقطت سألتقطك بذراعي الوحيدة...».
إن عبارة «ليتني كاتبها» تعبر عن مدى الإعجاب بشعر درويش، وهذا الإعجاب يبدو في الجزائر والمغرب واضحا.
قد يهمك أيضا :
الفلسطيني الثوري في ثلاثية أحلام مستغانمي (1 من 2)
صورة الفلسطيني في رواية زينب حفني «سيقان ملتوية»