اعتبر الفلسطينيون، الذين عملوا في الكويت وأقاموا فيها، الكويت وطنهم الثاني، وحين غادروها صار قسم منهم يحن إليها باعتبارها أندلسهم المفقودة. وقد أسهم الكتاب والأدباء الفلسطينيون، فيها، في صحافتها ونشروا إنتاجهم الأدبي والفني وصار لهم هناك حضور لافت، ابتداء من غسان كنفاني ومرورا بناجي العلي ومحمود الريماوي وليس انتهاء بالناقد وليد أبو بكر. وأعتقد أن ما تجدر دراسته هو النتاج الأدبي الفلسطيني في الكويت وفي صحافتها، وكنت حثثت كتابا عديدين منهم مثل تيسير نظمي أن يكتبوا عن تجاربهم هناك.
الحضور الفلسطيني الكثيف؛ الإنساني والأدبي والصحافي، ولد علاقات بينهم وبين الشعب الكويتي وأدبائه، ومن المؤكد أن الأدباء الكويتيين، وهم يكتبون نصوصهم، عبروا عن الحضور الفلسطيني في بلدهم. لا أعرف إن كانت هناك دراسة تتبعت الحضور الفلسطيني في الأدب الكويتي تحديدا، علما بأن الحضور الفلسطيني في الخليج بعامة لفت أنظار بعض النقاد الفلسطينيين فخاضوا فيه وأنجزوا عنه كتبا مثل كتاب الدكتور محمد إبراهيم حور «فلسطين في الشعر المعاصر بمنطقة الخليج العربي» (١٩٨٤)، ولا أظن أن الموضوع غاب عن ذهن الناقد وليد أبو بكر الذي أنجز العديد من الدراسات حول الأدب الخليجي.
في حوار مع الكاتب جهاد الرنتيسي، وهو فلسطيني أقام في الكويت فترة من الزمن، قال لي، إن حضور الموضوع الفلسطيني في أعمال إسماعيل فهد إسماعيل لا يقل عن حضوره في روايات إلياس خوري، وأضاف، إن النقد الأدبي الفلسطيني ظلم هذا الروائي الذي أحب الفلسطينيين ودافع، وكتب، عنهم في عديد من رواياته ولم يتخل عنهم في اللحظات الصعبة التي صاروا فيها موضع شبهة بعد غزو العراق للكويت في العام ١٩٩٠.
وعلى العموم، فقد قرأ الفلسطينيون نتاج هذا الروائي في فلسطين منذ ٧٠ ق ٢٠ يوم كتب رواية «الشياح» عن الحرب الأهلية اللبنانية، فأعادوا طباعتها وطباعة بعض رواياته الأولى التي لم تحظ بتلق نقدي لافت، ما حال دون متابعة نتاجه هنا على الأقل، بخلاف متابعته من الأدباء الفلسطينيين الذين أقاموا في الكويت عقودا. وأنا أتابع صورة الفلسطيني في الرواية العربية كان يجب أن ألتفت إلى الأدب الخليجي وتحديدا الكويتي لما كتبته في بداية الكتابة عن الحضور الفلسطيني اللافت هناك.
«على عهدة حنظلة» هي إحدى روايات إسماعيل فهد إسماعيل التي أتى فيها على الحضور الفلسطيني في بلده، وهي عموما ليست الوحيدة، فهناك روايات أخرى له صور فيها الفلسطينيين، وهذا ما تجب متابعته لاحقا. في «على عهدة حنظلة» يكتب الروائي عن فنان الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي الذي أقام في الكويت سنوات وعمل في صحافتها ثم تم ترحيله منها إلى لندن.
وأول ما يلفت النظر في الرواية هو عنوانها «على عهدة حنظلة» الذي يذكرنا بالعبارة المعروفة «على ذمة الراوي»، وهكذا فإن ما ورد في الرواية هو ضرب من التخاطر بين ناجي العلي وزواره في المشفى وحنظلة، ولكنه قبل كل شيء ضرب من التخاطر بين الكاتب وناجي العلي وضرب من التداعيات في ذهن إسماعيل فهد إسماعيل يسترجع فيها قصة ناجي العلي منذ سافر إلى الكويت عبر العراق، في القطار، ورأى في الطبيعة العراقية الحنظل فاخترع شخصية حنظلة التي لازمته في مسيرته الفنية على مدار عقود ولم يتخل عنها، وصار الاثنان؛ ناجي وحنظلة، متلازمين معا في الحياة والموت.
أشير ابتداء إلى أن شخصية ناجي العلي تركت أثرها في روايات عربية معاصرة، فوظف اسمه الأول لتنعت به شخصية لا تختلف في صراحتها وجرأتها ومواجهتها الآخرين عنه. هنا أذكر رواية الكاتب المصري علاء الأسواني «شيكاجو»، فأنت وأنت تقرؤها وتتابع شخصية المصري ناجي عبد الصمد تستحضر، بلا تردد، ناجي العلي. يبدأ ناجي رسوماته في الصحافة الكويتية رساما عاديا يرسم بالثمن المدفوع سلفا، وذلك لكي يعيش، وعليه وجب أن يلتزم بخط الجريدة السياسي، ولكن ما إن يحترف النشر يجد نفسه «بقلة نادرة من أصدقاء خلص وعدد هائل من أعداء تعرفهم أو لا تعرفهم» ويصبح واحدا «من قائمة فلسطينيين في المنفى قيد الاغتيال» ولا تنجح أية جهة في تدجينه.
وما يلفت النظر هو الحديث عن المرأة في حياته. إنه رجل المرأة الواحدة. رجل زوجته وداد حيث يخلص لها، ومع اهتمام امرأة كويتية به هي حنين واحترامها له ورعايته وهو في الكويت ثم وهو على سرير المشفى إلا أن وداد الزوجة تبقى الوحيدة في حياته، وهذا جانب جديد لا يعرفه القراء، ومما لا يعرفه قراء كثر هو علاقة ناجي بالكويت والكويتيين والمعارضة الكويتية التي آزرته ووقفت إلى جانبه.
حين يتحدث ناجي، يتحدث بصيغة الجمع و»الحديث بصيغة الجمع شأن فلسطيني» وحين تزوره زوجته في المشفى تقبل جبينه «وقبلة الجبين شأن فلسطيني»، وناجي ينحاز لابنتيه أكثر من انحيازه لولديه، وهو فنان مشاكس وحين يوقع كتالوج رسومه يوقعه بعبارة «لا شيء يستحق» ثم إنه يستهين بالإبداع، وهو مبدع «والمبدعون صنف مجانين»، وما يتسم به هو استعداء الآخرين وإصراره على هذا حتى إن بعض أصدقائه يقولون له، «ليتك تخفف من روحك الهجومية قليلا».
حنين الكويتية ورجال المعارضة الكويتية لهم حضور بارز في الرواية، وحنين ترى أن جرأة ناجي هي ما تجعله شخصا مختلفا «لو لم تكن جريئا حاسما ما كنت ناجي العلي « وهو يعرف طوال زمنه أنه «معرض للقتل وأنها مسألة وقت لا غير». إنه المحارب «العنيد الذي لا يكل ولا يمل من استثارة أعداء الإنسانية» وهو «ضمير الثورة الفلسطينية» وبقدر ما له من رفاق فكر وأصدقاء وعدد لا حصر له من معجبين بفنه لديه بالقدر ذاته أو أكثر أعداء يترصدونه ويتحينون فرصهم لإلحاق الضرر به.
هذه هي صورة إجمالية لناجي العلي في «على عهدة حنظلة»، ولكن هل كان هو الفلسطيني الوحيد الذي ظهر في الرواية؟
قد يهمك أيضا :
الثوري الفلسطيني في ثلاثية أحلام مستغانمي (3 من 3)
الفلسطيني في الرواية العربية «المثقف الفلسطيني: إدوارد سعيد مثالاً»