يعود منصور إلى يافا ليستقر فيها، وتعود معه زوجته لتضع طفلها هناك، على غير رغبة منها، فيافا التي يمجدها أبناؤها بخاصة والفلسطينيون بعامة ويرسمون لها صورة جميلة جدا ويفاخرون ببرتقالها ورائحته وبياراتها لا تروق لميليا. لقد ترددت في الذهاب إليها وحين قالت لزوجها إنها تكره المدينة أجابها إن يافا عروس المتوسط.
ما زاد من عدم تقبل ميليا ليافا أنها ذهبت إليها في فترة حرجة من حياة المدينة:
«كل الناس يحبون رائحة البرتقال، ويسكرون برائحة زهر النارنج، وميليا أيضا تحب هذه الرائحة التي تشبه المخمل، لكنها هنا في يافا شمت رائحة الدم. قالت له إن مدينته تشبه طرابلس في شمال لبنان» وكانت زارت طرابلس مرة واحدة وهي في السابعة. «كأني بطرابلس.. ساحة الساعة هنا تشبه التل هناك»، وأنها لا تحب المكان، لأنها تشم رائحة غريبة. رأت كيف أدارت تل أبيب ظهرها للبحر وفتحت فمها من أجل أن تفترس يافا».
ترصد الرواية على لسان شخوصها بعض ما عرف عن أهل يافا. لقد عرف عنهم حبهم لشرب الشاي فشاع هذا المشروب في مدينتهم بدلا من القهوة، ما أثار استغراب ميليا ودهشتها «حدا يستبدل القهوة العربية بالشاي؟»، وقد شاع شرب الشاي مع الانتداب البريطاني وصار كأنه مشروب قومي فلسطيني. تماما كما عرف عن أهل يافا خروجهم ونساءهم إلى مقام النبي روبين للتخييم هناك.
«يا روبني يا طلقني» تقول المرأة الفلسطينية إلى زوجها. «لم يسبق لمنصور أن أخذ أحدا إلى موسم النبي روبين. يذكر الموسم في طفولته. يذكر الخيام المنصوبة وحلقات الذكر، والعلم الأبيض الذي كتب عليه: «لا إله إلا الله وروبين نبي الله»، يذكر المسيرة التي تنطلق من الجامع الكبير في وسط المدينة إلى العجمي. يذكر النساء يتروبن في الخامس عشر من أيلول، لكنه لا يعرف من هو هذا النبي الذي يملك نهرا صغيرا إلى الجنوب من يافا. لم يفهم لماذا يمضي أهل يافا شهرا كاملا في خيام روبين حيث يستعدون لاستقبال الخريف».
إن نصب الخيام في خريف العام ١٩٤٨ لم يتحقق قرب نهر روبين ولكنه تحقق في المنافي العربية، حيث صارت «الخيام في كل مكان» ما يثير دهشة ميليا ويجعلها تتساءل «لماذا نصبتم الخيام هنا».
ترصد الرواية أيضا مطاعم المدينة الشهيرة في حينه.
يافا المدينة المزدهرة تؤول في أيار ١٩٤٨ إلى خراب، فالدم في الشوارع ومعمل العائلة هدم وصارت الآلات الحديدية معجونة بالدم والأشلاء. إلام آل منصور الذي تقمص شخصية أخيه وتحول من غير منتم إلى منتم وحمل البندقية؟ يغادر منصور المدينة عبر البحر، بعد أن رمى بندقيته، فقبله فعل المتطوعون العراقيون الشيء نفسه «زتوا سلاحهم لأن قائدهم انطرد، وقال ما بياخدوا أوامر إلا من الحاج مراد اليوغوسلافي».
ولواء يافا - اللد تفكك، ومن تبقى من المجاهدين شردوا إلى الميناء. وهنا تبدأ رحلة الاغتراب. غير أن ما لا ينبغي أن يغيب عن الذهن في تتبع شخصية منصور أنه يمثل ابن المدينة الفلسطينية. إنه الانسان المثقف قارئ الشعر ومتذوقه، وهو الذي يحفظ الشعر العربي ويستحضره ويتبارى في حفظه وتذوقه مع زوجته اللبنانية. إن حضور الشعر عموما يبدو لافتا في روايات عديدة لالياس خوري، ما يجعلنا نخمن أن منصور هنا في هذا الجانب ليس سوى صدى للكاتب نفسه أو أن الكاتب يسقط شخصيته على بطله، مع أن يافا امتازت بأنها مدينة علم وثقافة.
وهناك سمة أخرى لمنصور تعكس صورة ابن المدينة الفلسطينية الغني، وهي طريقة تعامله مع زوجته ميليا، فهو زوج محب صبور يرفض الاستبداد، وكما ذكرنا فإنه غادر يافا هربا من أمه المتسلطة.
تجسدات المسيح في الفلسطيني:
في رواية «مملكة الغرباء» حضر المسيح كأول غريب في مملكة هذا العالم، فهل غاب حضوره في «كأنها نائمة»؟
يذهب (يونغ) إلى أن الأعمال الأدبية إن هي إلا صدى لأساطير قديمة تتردد في حياة البشر، ويرى البنيويون أن الثنائيات في هذا الكون شبه ثابتة، وأن الأنساق محدودة. إن قصة (أوديب) وقصة (هاملت) وقصة كامل رؤبة لاظة في «السراب» تتشابه في خطوطها العامة، فهل تتشابه تجربة الفلسطيني المعاصر مع تجربة المسيح؟ وهل يحمل الفلسطيني المعاصر صليبه على ظهره ويسير في طرقات هذا العالم معذبا مشردا؟
في «مملكة الغرباء» كلهم غرباء، وفي «كأنها نائمة» يأتي الياس خوري على قصة ذبح الأب ابنه. قبل أن أخوض في هذا ألفت النظر إلى فكرتين أساسيتن هما: «التقمص»، كما تقمص منصور شخصية أخيه امين، وفكرة اختلاط الناس في ميليا حتى أنها لم تعد تعرف من هي وقد أكد لها الراهب طانيوس أن هذا حدث مع المسيح وهو «رايح على الصليب، حس أن هو مش هو، حس أن كل الناس صاروا جزء منه.
حاول أن يتذكر الإشيا فشاف كل شيء، صار هو الأم والأب والست والسيد والخروف، من شان هيك ما عاد يقدر يحكي، إذا حكى شو بيقول، وإذا قال مين رح يفهم عليه، وإذا فهم مين راح يصدق»؟.
أليس ما سبق هو ما حدث مع الفلسطيني منذ العام ١٩٤٨؟
تنتهي رواية «كأنها نائمة» بموت ميليا وهي تلد، وكان موتها موازيا لموت يافا وضياعها، ولاحظنا من قبل أن الفلسطينيين في «مملكة الغرباء» ويونس في «باب الشمس» آلوا إلى النهاية نفسها؛ القتل أو الموت في المشفى. ومع ذلك فإن «الخروف الصغير على صدرها، وصوت بكاء طفل يأتي» يأتي من البعيد.
قد يهمك أيضا :
ناجي العلي في الرواية الكويتية: "على عهدة حنظلة" 2 من 2
الفلسطيني في الرواية العربية: إلياس خوري في «الوجوه البيضاء» (2 - 2)