تحفل رواية «سينالكول» ٢٠١٢ لإلياس خوري بنماذج فلسطينية عديدة تختلف نسبة حضورها من نموذج لآخر، وإن كانت كلها شخصيات ثانوية، فالشخصيات الرئيسة التي تدور الرواية حولها هي شخصيات لبنانية، وتعد الرواية رواية لبنانية بالأساس، خلافاً لروايات أخرى للكاتب حضر فيها الموضوع الفلسطيني حضوراً أساسياً مثل «باب الشمس» و»أولاد الغيتو: اسمي آدم» و «أولاد الغيتو: نجمة البحر»، وخلافاً لروايات تقاسمت البيئتين اللبنانية والفلسطينية مثل «مملكة الغرباء» و «كأنها نائمة». إن «سينالكول» أقرب إلى «يالو» فهي تتخذ بالأساس من الحرب الأهلية وذيولها موضوعا لها.
تجري أحداث الرواية في لبنان وموضوعها، كما أسلفت، هو الحرب الأهلية، وعلى هامشها يحضر الفلسطيني الذي كان مشاركاً فيها ومتحالفاً مع بعض القوى اللبنانية الوطنية واليسارية.
يعود الوجود الفلسطيني في لبنان، عموما، إلى فترة أسبق من تاريخ النكبة الفلسطينية في ١٩٤٨، وقد بدا في الرواية الأسبق - أي «كأنها نائمة».
في «سينالكول» كتابة عن الفلسطيني سليم العشي الذي أقام في لبنان قبل ١٩٤٨، وكان صاحب طريقة تركت أثرها اللافت في المجتمع اللبناني. سليم من المذهب السرياني، ولد في بيت لحم، وهاجر إلى بيروت، حيث أسس مذهباً دينياً هو المذهب الداهشي، جمع فيه المسيحية بالإسلام، وأعلن نفسه نبياً، واحتل مذهبه المشهد السياسي اللبناني في أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته. هنا نلحظ تأثير الفلسطيني المبكر والمؤثر في لبنان. يقع نصري الصيدلاني والد التوأم كريم ونسيم تحت تأثير المذهب من خلال سطوة أحد أطباء الجلد. ما سبق يعني ببساطة أن الفلسطيني مؤثر في الحياة العربية، ويكفي أن نشير إلى مؤسس حزب التحرير الإسلامي النبهاني وإلى الشيخ عزام القريب من «القاعدة».
من الشخصيات الفلسطينية اللافتة الفلسطيني اليساري المتطرف ملاك ملاك الذي درس في الجامعة الأميركية في بيروت.
ملاك من مخيم تل الزعتر وهو ذو تأثير على غيره، فكما أن نصري وقع تحت تأثير المذهب الداهشي، فإن ابنه كريم طالب الطب وقع تحت تأثير فتنة ظهور ملاك.
في بداية سبعينيات القرن العشرين تتأزم الأوضاع في لبنان وتبدأ الإضرابات وتغدو المقاومة الفلسطينية وحلفاؤها اليساريون اللبنانيون محور الحياة السياسية هناك، وتكون الجامعة الأميركية هي الأساس فـ «الذي يحتل الجامعة يحتل بيروت»، ولأن إدارة الجامعة تستدعي الشرطة لإنهاء الإضراب يقوم ملاك بقتل عميدين ويصبح بطل الحكاية.
كان ملاك طالباً في السنة الرابعة في كلية الهندسة، وهو ينتمي إلى عائلة فلسطينية مسيحية من نواحي حيفا «انضمت إلى سيل اللاجئين عام ١٩٤٨».
قبل أن يدرس في الجامعة الأميركية سافر إلى العراق لإكمال دراسته، وهناك تعرض للاعتقال والتعذيب على يد رجال المخابرات، من أجل إجباره على التعامل معهم، ولكنه رفض ونجح في الهرب والعودة إلى لبنان، كي «يصبح قاتل العميدين نجيمي وغصن، ولينقذ بعمله الجنوني مستقبل جميع زملائه» فقد تراجعت إدارة الجامعة وانهارت ووافقت على عودة الطلبة المصروفين إلى الدراسة، وحين يعتقل في سجن رومية يعمل بعض أصدقائه من اللبنانيين على تهريبه من السجن ويطلبون منه الاختفاء في مخيم تل الزعتر، وهناك قاتل ثم اختفى ونسي الناس حكايته.
فما هي قصته في العراق؟ وما هي علاقته بالمرأة؟
كان ملاك، وهو في الجامعة، على علاقة بهالة، وهي لبنانية من أسرة سنية بيروتية محافظة، وقد أسفرت العلاقة عن فض بكارتها، وقالت لوالدها الحاج يحيى الفاكهاني إنها ستتزوج من ملاك رغم كل شيء. قالت إنه سيتخرج بعد سنة وسيسافران إلى قبرص حيث سيعقدان زواجاً مدنياً، مثل جميع خلق الله، وهو ما لم يستسغه والدها فهددها بالقتل، ولكنها لم تكترث.
التغير حدث في شخصية ملاك الذي لم يحك عن تجربته في العراق، فهالة هي من حكت. لقد تغير كثيرا. «قالت إنه لم يروِ سوى نُتف من تجربته المريرة هناك. اكتفى بأن قال إن الموت أفضل من السجن». وعندما طلبت منه أن يخبرها ماذا جرى، أهداها رواية عبد الرحمن منيف «شرق المتوسط».
حين تُعتقل هالة لتعترف عن شركاء ملاك في الجريمة التي ارتكبها تتهرب.
تجربة ملاك في سجون العراق، كما أسلفت، جعلت منه إنساناً آخر «كأنه ترك ضحكته ونكاته التي لم يكن يتوقف عن روايتها في بغداد، وعاد لابساً وجهاً جديداً. صار مقلّاً في الكلام، متبرماً بكل شيء.» قال إنه اكتشف في سجون العراق أن الانسان يستطيع أن ينفصل عن جسده، وأنه أصيب بالدهشة عندما رأى نفسه يصلي للسيدة العذراء ويطلب منها أن تساعده». لقد تغيرت قناعاته أمام المصائب ورجع مثل جدته غارقاً بالخرافات، ويرى أن ما حال بينه وبين الانهيار والتعاون مع المخابرات هو صلوات جدته له.
ينتهي ملاك بالاختفاء والهروب وينتهي حبه، بعد تجربته العراقية، وتفاجأ هالة ذات صباح بأن صوره تحتل الصفحات الأولى من الصحف.
هالة طالبة الفلسفة في الجامعة اللبنانية لم تكن مناضلة، ولم تكن تشعر أنها يمكن أن تنتمي إلى المناخ السياسي الذي كان سائدا في الجامعات في بيروت، هالة وقعت في عشق الفلسطيني، وأبدت استعدادها إلى احتمال طريقته في الحياة، ولكنها لم تكن «تتوقع أن تأخذ دروب النضال حبيبها إلى الجنون». ولأنه انتهى إلى هذا فقد لجأ إلى الاغتيال.
إن الفلسطيني هذا قام بما لم يقم به رفاقه اللبنانيون وارتكب فعلته التي أدانها بعض رفاقه منهم، لأنها اغتيال وليس عملاً ثورياً، ضحى بنفسه من أجل إنقاذ زملائه، وهو هنا، على أية حال، مثل أبطال جبرا ابراهيم جبرا الفلسطينيين، ومثل فلسطينيين كثر في روايات عربية صدرت قبل «سينالكول» وبعدها. إنه الفلسطيني المعشوق من المرأة العربية، ولعلني أُجمل صورة هذا الفلسطيني في المقالة القادمة تحت عنوان سطر شعري لمحمود درويش هو «كم قمر أهدى خواتمه إلى من ليس منا».
قد يهمك أيضا :
الفلسطيني في الرواية العربية: إلياس خوري في «الوجوه البيضاء» (2 - 2)
صورة الفلسطيني في الرواية العربية: الفلسطيني المقاوم والفلسطيني المحايد «كأنها نائمة» (1 من 2 )