بقلم : صلاح هنيه
مع بداية ظهور وباء "كوفيد-19" في بعض دول العالم، كنا في فلسطين نتابع الأخبار على عادتنا الجارية ونتناقل فيما بيننا القصص الإعلامية عن العالم ونحن ندخن الأرجيلة ونحتسي فنجان القهوة، وأحياناً نكون في مرحلة التهيئة لانطلاق ورشة عمل، على قاعدة أن الأمر لن يطالنا لأن طعامنا حلال والنظافة راسخة. ورغم تفاوت أداء البلديات في ملف النظافة وصحة البيئة، إلا أن الأمور تعتبر سالكة، ونزيد من البهارات بالقول: إننا ابتلينا بالاحتلال ومستعمراته، ولا نظن ونحسن الظن أن هذا الوباء لن يكون من نصيبنا.
كنا نخطط للغد وكأنه أمر واقع وأننا محصنون ونريد أن نستورد بضائع لشهر رمضان المبارك، وننهي موسم الشتاء ونعرض موديلات الصيف، ونخطط ونسعى للتنفيذ، ولم نصدق احتمال إلغاء الدوري الإسباني، ولم نستوعب أن المباريات في إيطاليا ستنظم دون جمهور، وكنا نرى للمرة الأولى ماكنات التعقيم في إيطاليا وإسبانيا ونقول ما الذي جرى.
وبمجرد أول إصابة في فلسطين، انقلبت مفاهيمنا رأساً على عقب، ولم نعد نؤمن بما كنا نستعرض فيه إبان كان الوباء في مكان آخر من العالم، فلم يعد الماء والصابون والوضوء خمس مرات في اليوم كافياً، وبتنا نتدافع على معقمات اليدين ونتهم الصيدليات والموردين والشركات بالاستغلال. ونستعيد ذاكرتنا ألم تكن هذه المعقمات توضع بجانب طاولة المحاسبة في الصيدليات ولا نقيم لها وزناً، وأصبنا بهوس الكمامات والكفوف وبتنا نعرف سعرها سابقاً وكأن مواطناً واحداً سبق أن ابتاع علبة كمامات أو كمامة واحدة باستثناء المرضى الذين يعانون من نقص في المناعة خوفاً على حياتهم، وكنا نتردد بسؤالهم عن حالهم حرصاً على مشاعرهم، وتدافعنا لمواجهة الوباء بالتخزين المبالغ به ففتحنا شهية الموردين والتجار لرفع أسعار الأرز والدقيق والسكر والزيوت النباتية وغيرها.
ومضى شهر على إعلان حالة الطوارئ والحد من التنقل والحجْر الجماعي المنزلي، وإذ بنا ننسى ونتناسى بالكامل أننا محصنون لأن ثقافتنا مختلفة عن بقية العالم، ولم نعد نثق بالكمامات والكفوف والمعقمات، وكأن الحاوي أخرج من قبعته شيئاً جديداً جوهره توجيه الرأي العام للقضايا المالية والاقتصادية بحيث تعود الحياة إلى سابق عهدها. لم نعد نحتمل ولا يعقل أن تعمل شركات الصناعات الغذائية والبلاستيكية والدوائية والموردين للأجهزة الطبية والأدوية العالمية، والمستوردين للمواد الغذائية والسوبرماركت والمخابز والصيدليات والبنوك وشركات الكهرباء والمياه ونحن في البيوت، نريد أن نعود للعمل، ها هو الناطق بلسان الحكومة يقول: (صفر إصابات اليوم)، علينا التزامات ولنا حقوق وافتتح النقاش بحدية لم تتوافق مع القناعة الراسخة بأننا أهل الصبر وأهل التكافل وأهل تقاسم رغيف الخبز، وأننا نحن شعب الانتفاضة الأولى التي كان يفرض منع التجوال شهراً كاملاً ينقضي فيه رمضان والعيد في ظل منع التجول، ونحن من نفاخر أننا كنا نقدم المساعدات لعائلات فيقولوا: جارنا أولى بها. ونحن من فاخرنا أننا زرعنا الأرض بشكل جماعي لمواجهة إجراءات الاحتلال.
فجأة غابت القناعات الراسخة بروعة شعبنا وتحولت إلى قضايا مالية واقتصادية على حساب صحة وسلامة شعبنا، وبتنا نقيم وزناً للعودة للعمل ليس بهدف العودة بقدر ما هي العودة للنظام السابق والخروج من المنزل. ولن نلقي باللائمة إلا على الحكومة في حال عادت المدارس والحضانات ورياض الأطفال دون السيطرة الكاملة على الوباء وبلوغ صفر إصابات لفترة طويلة.
إذاً أين نقف اليوم؟
من وجهة نظري أميل إلى عودة بعض القطاعات المتعطلة إلى العمل، آخذين بالاعتبار أنه حتى الشركات الصناعية العاملة تعمل بأقل من نصف طاقتها الإنتاجية، الأمر الذي يطال القطاعات المرتبطة بها والمزودة لها بالمواد الخام ومكملات الإنتاج من عبوات البلاستيك والكرتون وقطاع التغليف والنقل وغيره، والقطاع الزراعي لا ينشط لزراعة صيفية بشكل واسع تؤثر أيضاً على قطاع المشاتل وحجم الطلب منها، خصوصاً نحن نتحدث عن مئات الدونمات الزراعية التي قد يتضرر الأمن الغذائي إذا تقرر زراعة مساحات قليلة في الموسم الصيفي.
عودة القطاعات الاقتصادية المتعطلة تستدعي إنشاء نظام توصيل محوسب قوي وقادر على الحمل، لكي لا تقع ازدحامات للعمالة من جهة والزبائن من جهة أخرى فيسعفنا التوصيل، صحيح أن هناك نسبة لا بأس بها غير مشتركة بخدمات الإنترنت والهواتف الذكية، الأمر الذي يستدعي الاعتماد على مراكز الاتصال لتقديم هذه الخدمة لمن لا يستطيع استخدام التطبيقات.
التوجه الأكثر أهمية هو التركيز عليه المشاريع النسوية الصغيرة ومتناهية الصغر، وهذه بالإمكان إعادة تشغيلها من خلال نظام التوصيل المعتمد، خصوصاً أن بعضها لا يصل إلى السوبرماركت مثلاً، ولا توجد احتفالات وورش عمل لاستيعاب تلك المنتجات، فالنساء النحالات والنحالون، وصاحبات المطابخ المنزلية، خصوصاً أن الكثير من الشركات تشغل عمالها ويبيتون في الشركات وبإمكان هذه المشاريع أن تستفيد من هذه النافذة، وتراكم خسائر هذه القطاعات سيدمرها، خصوصاً إن كانت العاملات ممن حصلن على قروض من مؤسسات الإقراض الصغيرة وزادت أعباؤهن في هذه المرحلة.
قد يهمك أيضا :
ملاحظات على الهامش
الانفكاك استراتيجية أم ردة فعل؟