اتخذت الحضارات القديمة شكل الإمبراطوريات (تفاوتت في مقدراتها ومساحاتها)، وكان الإمبراطور هو الحاكم الأوحد، بصلاحيات مطلقة، تصل مرتبه الإله أحياناً، وظل نظام الإمبراطورية سائداً إلى أن بدأت النظم الملكية تحل محله تدريجياً، علماً أنّ الممالك كانت موجودة بالتزامن مع الإمبراطوريات، بيد أنها كانت صغيرة، أي دويلات، أو
محميات تتبع إمبراطورية ما في مناطق نفوذها.. في القرون الوسطى كان ينافس الملك في سلطاته كلاً من الكنيسة والإقطاعيين والنبلاء.. ولإعطائه كل السلطات ظهرت مع بدايات القرن السادس عشر نظرية "الملكية المطلقة"، التي تجعل من الملك والدولة شيئاً واحداً، والشعب مجرد رعايا، والملك فوق الشعب، وفوق القانون، وطاعته من طاعة
الله، بصفته ممثلاً لله. بعد الثورة الفرنسية، والإطاحة بالإقطاع، أخذت تظهر نظريات جديدة تعطي للدولة مفهوماً أحدث، مثل نظرية الدولة الدستورية، التي تجعل من الدولة خادمة للشعب، عليها واجبات تحقيق النظام، وحماية القانون، وتوفير الخدمات الأساسية، وتسمح بالمشاركة الشعبية، لدرجة أن الشعب بوسعه تغيير النظام.. ثم ظهرت النظرية
الأخلاقية للدولة، التي تقول أنّ على الدولة أن تجسد روح الشعب ووحدته، وأن تحمل رسالة سامية تمثل قيم الأمة وأخلاقها.. ثم ظهرت النظرية الطبقية الماركسية، التي دحضت النظريات السابقة، وقدمت بديلها الشيوعي. تاريخياً، مهما كان شكل الدولة أو اسمها، كانت مشكلتها الرئيسة وهمّها الأول كيفية تثبيت نظام الحكم، والحفاظ على
امتيازات الطبقة الحاكمة، وإخضاع الشعب، والتحكم في مصيره.. وقد سلكت الدول طرائق شتى في كيفية تحقيق هذا الهدف: مثلاً الدول الديمقراطية (والتي أتت في مرحلة لاحقة) سمحت بأوسع قدر ممكن من المشاركة الشعبية، وحرية التعبير، ووفرت الحد الأدنى من الأمن والحياة الكريمة لمواطنيها (بعضها وفر الرفاهية والمساواة)، وانتهجت
أسلوب التداول السلمي للسلطة، من خلال الانتخابات.. ولاحتواء أي معارضة، أو امتصاص أي نقمة شعبية كانت تلجأ للقوة الناعمة، وأهمها الإعلام، وتقريب المثقفين من السلطة، ولم تلجأ للقمع إلا في حالات استثنائية ومحدودة. المشكلة كانت أكبر في دول العالم الثالث؛ فمع أنها في دساتيرها تتحدث عن الديمقراطية، والحريات، وواجبات
الدولة، وحقوق المواطن، وفصل السلطات، ومكافحة الفساد، والعدالة.. بيد أنّ الواقع كان عكس ذلك؛ إذ فشلت في توفير حياة كريمة لمواطنيها، واستبد بها الفساد، وتحولت إلى نظم قمعية، وبعضها عمَّ فيها الخراب.. ومن أجل تثبيت أركان الحكم، وفرض الأمن (أي أمن النظام)، وحماية مصالح التحالف الطبقي الحاكم، والتحكم بالشعب، والتغطية
على فشلها، لجأت إلى أساليب متعددة؛ منها استخدام الدين لتستمد شرعيتها منه، وتحتمي به. أو تقديس الدولة والحاكم، وجعل شعارات الدولة بمثابة دين. أو بالقمع والأجهزة الأمنية. أو بالاقتصاد، من خلال توسيع التحالف الطبقي عبر عمليات الخصخصة (النيوليبرالية). أو توظيف أدوات أخرى كالرياضة، والإعلام، وشعبنة العلوم.. وقد نتطرق
لهذه الأدوات بشكل أعمق في مقالات قادمة. استخدام الدين لتثبيت امتيازات السلطة ممارسة قديمة، لجأت إليها الدول التسلطية منذ أيام الفراعنة، مرورا بالممالك الأوروبية التي كانت متحالفة مع الكنيسة، ثم نظام الخلافة الإسلامية، التي منحت الخليفة سلطات شبه مطلقة، وانتهاء بالدول العربية والإسلامية الحالية، التي تقرب رجال الدين من السلطة،
وتوظف الخطاب الديني لتبرير ممارستها، والتغطية على فشلها، بخطاب شعبوي عاطفي. منذ بدايات القرن العشرين، ظهرت في العالم العديد من النظم الاستبدادية والشمولية، وهذه الدول لم تستخدم الدين، بل حاربته، لكنها ابتدعت دينا جديدا، إذ جعلت من النظام نفسه بمثابة دين، وأحاطته بالتابوهات والمقدسات، أي أنها استخدمت نفس الآليات، لكن
بشكل ومحتوى مغاير. فقد سعت الأنظمة الشمولية للتحكم في جميع مجالات الحياة، على المستويين الفردي والجمعي، بحيث صارت تحدد لكل شخص كيف يفكر وكيف يتصرف، من خلال الحزب الحاكم؛ فكل مواطن في الدولة إما عضو في الحزب، أو عسكري، أو في جهاز أمني، أو موظف، أو نقابي ضمن نقابة يتحكم فيها الحزب، حتى
الأندية الرياضية والجمعيات الأهلية والاتحادات جميعها تتبع النظام، ومن لم يكن ضمن أي إطار، فمن حوله المخبرون والعسس.. ويتم هذا بمساعدة الجهاز الإعلامي الذي يتبع الدولة بالضرورة، ومن خلال جهاز التربية والتعليم، والمنظمات الشبابية، يشمل ذلك الأوساط الثقافية والفنية وحتى الدينية.. وحجر الأساس في هذا النظام الشمولي هو
القائد الأوحد. ومن خلال هذه التراتبية النظامية شبه العسكرية، يتم التحكم بالشعب، وتشريبه أيديولوجية الحزب الحاكم، ومن أجل ضمان نجاح العملية يتم قولبة جميع المواطنين ضمن نمط موحد (باسم المساواة)، مثل توحيد الزي، وتوحيد الشعارات. وبذلك تتحول أيديولوجيا الحزب الحاكم إلى دين.. وتستخدم نفس آلياته، فكما يطالب الدين
أتباعه بالتصديق بكل الغيبيات، وتأدية الفروض الدينية، سيطالب الحزب الحاكم مواطنيه بتصديق كل شعاراته، وتنفيذ قراراته، حتى لو كانت تؤدي إلى التهلكة.. وكما أن الدين لا يقبل بالشرك، ويرفض التعددية، ويقصي كل خصومه (بالتكفير) ويرفض التعايش مع الطوائف الأخرى (بالنسبة للأنظمة والأحزاب الدينية المتشددة والمتعصبة)، سيرفض
الحزب الحاكم أية تعددية سياسية، وسيصفّي كل معارضيه (بالتخوين).. وكما أنّ للدين مقدسات ورسالة روحية، سيكون للحزب مقدساته (شعارات الحزب). وكما أن لكل دين أنبياءه، فللحزب شخصياته المقدسة (الزعيم).. وكما للدين طقوسه اليومية، للحزب أيضاً طقوسه، مثل رفع العلم يوميا، وترديد النشيد الوطني.. وكما أن الدين هو المرجع
الإلهي لتحديد الحق والباطل، ستصبح أيديولوجية الحزب هي المعيار الذي يحدد الخير والشر.. وكما يورَّث الدين من الأبوين، سيرث الفرد أيديولوجية الحزب وأفكاره، وسيتشربها في المدرسة، والمخيمات الكشفية، والمنظمات الحزبية.. وكما في الدين ثواب وعقاب ووعد في الآخرة، للدولة نظامها في العقوبات، ووعودها المؤجلة في رخاء
الشعب إذا ما امتثل للنظام، وأطاع الزعيم.. وكما مارست الأديان حملات القتال، والحروب الصليبية ومحاكم التفتيش، يمارس الحزب الحاكم العنف ضد معارضيه بحجة تطهير المجتمع من العملاء، والبرجوازيين، وأعداء الثورة والوطن.. ففي الحالتين ثمة سعي للوصول إلى المجتمع الطاهر والنقي والمتجانس.
قد يهمك أيضا:
هـل تـمـرّ الـصـفـقـة؟
حول مشروع نهر الكونغو