نُصدم أحياناً حينما نكتشف صفات سلبية لشخصيات مرموقة وتحظى بشعبية جارفة، ونتفاجأ كلما سمعنا عن تصرف غير لائق من شخصية محبوبة ومشهورة.
وكثيراً ما نسمع عن طلبة كسولين، بصعوبة بالغة تخطوا الثانوية العامة، وبمعدلات متدنية، لكنهم صاروا بعد ذلك رجال أعمال ناجحين، وقادة مجتمع، وتبوؤوا مناصب مهمة.. مقابل طلبة مجتهدين، حازوا أعلى الدرجات لكنهم لم ينجحوا في حياتهم المهنية، أو ظلوا ضمن الطبقة الوسطى، أو حتى الفقيرة!
لدينا اعتقاد أن الفنان أو الأديب أو العالم يجب أن يكون مرهفاً وحساساً ومفعماً بقيم الإنسانية، لكن هذا لا يحدث دائماً، فنجد شاعراً فذاً لكنه نزق، أو روائياً كبيراً لكنه خجول، أو رساماً عظيماً لكنه سادي، أو عالماً عبقرياً لكنه مجرم.. حتى أننا عادة ما نميز الموهوبين والفنانين والمبدعين من مظهرهم غير الاعتيادي، ومن تصرفاتهم الغريبة، التي تشابه مظاهر الجنون أحياناً.
تفسيرات ذلك عديدة؛ فمثلاً قد يكون الخطأ منا أنفسنا، إذ نُسقط افتراضات غير واقعية وغير علمية على هؤلاء؛ فنفترض أن الموسيقار العظيم يجب أن يكون متواضعاً، والمخترع أن يكون صادقاً، والنحات أن يكون ذا مشاعر دافئة متدفقة، والكاتب المبدع أن يكون متحدثاً، والمخرج المتألق أن يكون أنيقاً، والممثل المشهور أن يكون وسيماً.
تفسير آخر يرى أن الإبداع نفسه هو الذي يجعل من المبدع مختلفاً، وغير عادي (في سلوكه اليومي، ومظهره، وعواطفه) حيث إنه أطلق العنان لعقله، وحرر دواخله من كل القيود المجتمعية، ووصل إلى مستوى فلسفي يجعله يرى العالم بمنظار مختلف عن منظارنا نحن العاديين، ولديه شجاعة ليعبر عن نفسه ويتصرف بمعزل عن المألوف والتقليدي.
وتفسير آخر يعتبر أن دور الأدب والفن والعلم هو صقل إنسانية الإنسان، وتهذيب مشاعره، والسمو بروحه، وترويض غرائزه، والارتقاء بأخلاقه.. وهذا صحيح، ولكن ذلك لا يحدث دائماً، وبالضرورة، وقد يحدث على نحو مغاير لتوقعاتنا وفرضياتنا المسبقة.
وتفسير آخر ينطلق من فرضية خاطئة، أو منقوصة، ترى أن الذكاء كلٌ متكامل، والأخلاق لا تتجزأ؛ فالذكي عِلمياً وأكاديمياً يجب أن يكون ذكياً اجتماعياً وإدارياً وعملياً.. والإنسان الخلوق يجب أن يتحلى بكل الصفات الحميدة، وألا يخطئ.. والقوي الشجاع يجب ألا تخور قواه، وألا يضعف ولا ينهار.
وثمة نظرية أخرى (وهي أيضاً خاطئة) تفترض أن الشخصية العامة، والموهوبين والمتميزين والمشاهير والنجوم.. أولئك يجب أن تكون لهم حياة واحدة، وشخصية واحدة، هي الظاهرة في العلن.. وهذا مطلوب، لكننا نذهب بذلك بعيداً، فننسى أنهم بشر عاديون في الأساس، لديهم نقاط ضعف؛ يجوعون، ويخافون، ويتعبون، ولديهم احتياجاتهم الفسيولوجية وغرائزهم ورغباتهم الخاصة، وهم ليسوا ملائكة، ومعرضون للخطأ.
بالنسبة للأقوياء، هل مصدر قوتهم الحقيقي نابع من الداخل، أم مستمد من المحيط؟
فمثلاً هل كان صدام حسين بكل جبروته وهيبته وقسوته قوياً من الداخل، يستمد قوته من أعماقه، أم يستمدها من سلطته وجيشه وحرسه الشخصي؟ الإجابة تفسر لنا نهايته الحزينة.
«بيكاسو» كان عنيفاً مع صديقاته ومتنكراً لفضلهن عليه، «فان كوخ» كان مدمناً على المخدرات، ومكتئباً، «بيتهوفن» كان يعاني من اضطرابات نفسية حادة، «هيمنغواي» عاش ضحية الاكتئاب وإدمان الكحول، ومات مُنتحراً، «نيوتن» كان نزقاً وسريع الانفعال وشديد الغضب وضيّق الأفق، «الإسكندر المكدوني» كان مثلياً، «اينشتاين» كان فوضوياًِ، «أديسون» كان مصاباً بضعف الذاكرة حتى أنه نسي حفلة زفافه، وتغيب عنها.
كل تلك الصفات لا تعنينا بشيء، ولا تمنع أنهم كانوا عباقرة وموهوبين وعظماء.
أنا لا أناقش هنا قضية «ازدواجية الشخصية»، أو «كلية الأخلاق»، وضرورة ألا يكون للإنسان حياتان: سرية وعلنية، تلك قضية عميقة وتحتاج مختصين، ما أناقشه هنا مسألة الفصل بين الذكاء العلمي والذكاء العاطفي والاجتماعي.. وأعتقد أن عملية الفصل وفهمها تعطينا مفاتيح لتفسير ما سبق.
الذكاء العاطفي هو قدرة الإنسان على التعرف إلى عواطفه الداخلية، وفهمها بصورة صحيحة، وإدراكها بوعي، والتعبير عنها بشجاعة ولباقة، وإدراك مدى تأثيرها على من هم حوله، والسيطرة على سلوكه وضبط انفعالاته، وإدارة مشاعره الخاصة، بما لا يضر الآخرين، ومراجعة نفسه وتصرفاته بأمانة وصدق مع الذات.. وكلما ارتفعت مهارات الذكاء العاطفي للفرد، أدى ذلك للسلام الداخلي، والانسجام مع الذات، وبناء علاقات فعالة وناجحة في محيطه الاجتماعي.
والذكاء العاطفي يتطلب التمييز بين الأفكار والمشاعر الخاصة، والسيطرة على العواطف والدوافع والانفعالات.
بينما يتطلب الذكاء الاجتماعي معرفة كل ما يحيط بالفرد، وتفهم مشاعر الآخرين، والتعاطف معهم، وتفهّم وجهات نظرهم، والاهتمام بهم، والاستماع جيداً لما يقولون، والتصرف معهم بطريقة لائقة ومتحضرة دون أحكام، وملاحظة لغة الجسد وعلامات الاتصال غير اللفظي لديهم، ومراقبة ردود أفعالهم وتحليلها، والتجاوب بصورة مناسبة مع محتوى رسائلهم، وبالتالي تكوين صداقات حقيقية وبناء علاقات متبادلة، مع القدرة على وضع الحدود، ما يجعل الحياة العملية والاجتماعيّة متوازنة وصحية.
غالباً ما يكون للذكاء العاطفي والاجتماعي سمات خاصة وموهوبة، ومع ذلك بإمكان أي شخص اكتساب هذه السمات، أو تحسينها، أو التدرب عليها؛ فهي سمات مهمة للغاية، وتسهل دروب النجاح، وتفتح الآفاق وتتيح الفرص، والأشخاص الذين يمتلكون الذكاء العاطفي عادة ما يتمتعون بحياة اجتماعية أفضل ويعيشون بسعادة ورضا.
امتلاك الذكاء العاطفي من عدمه، يفسر كيف أن طالباً متميزاً ومجتهداً وحاصلاً على أعلى العلامات يخفق في حياته العملية، في حين ينجح ويتميز من لا يمتلك شهادة جامعية.. ويفسر لماذا ذلك الشخص محبوب ولديه عشرات الأصدقاء، وذاك مشهور لكنه مكروه، وآخر انطوائي، أو فاشل، أو فقير، ويندب حظه على الدوام.. ويفسر كيف لشخص فاحش الثراء، ومتفوق، وناجح في عمله أن يغرق في الاكتئاب، وقد ينتهي منتحراً.. ويفسر كيف لطبيب بارع أن يجري تجارب قاسية على البشر.. وكيف لعالم كبير أن يكذب ويزور.. كيف لرجل دين أن يستغل الفقراء..
وكيف لقائد مغوار أن يضعف ويجبن في لحظة ما.
الموضوع شائك، ويحتاج نقاشاً على نطاق أوسع.
قد يهمك ايضا :
عــن رجـــم ثريـــا
من أسباب تأخرنا