«إخوان الصفا»، واحدة من أكثر الحركات الإسلامية غموضا في التاريخ، وقد احتار الباحثون في كل العصور حول قضيتهم، وفي معرفة محرري رسائلهم، وهل هم حركة سرية أرادت نشر الإلحاد، أم هم إسلاميون متنورون سبقوا عصرهم؟
ظهرت «إخوان الصفا وخلان الوفا»، في النصف الأول من القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) في مدينة البصرة (ويُقال إنهم كتبوا رسائلهم في منطقة مصياف في سورية في جبل يسمى المشهد العالي)، وقد وردت تسمية «إخوان الصفا» في قصص كُليلة ودمنة، التي ألفها (أو ترجمها) ابن المقفع قبل ذلك بقرنين، وتدل تسميتهم على الصفاء والنقاء والوفاء بين الإخوة الذين تلاقوا على تلك الأفكار.
يمكن وصفهم بجمعية سرية، أو «أخوية»، إذ لا يعرف أحد أسماءهم وأعلامهم، علماً بأن «أبو حيان التوحيدي» ذكر أسماء أربعة من المؤسسين، ولكن لا يُعرف إذا كانت تلك أسماء حقيقية، أم مستعارة.
كانت البصرة وبغداد آنذاك أهم الحواضر الإسلامية الثقافية المزدهرة، المنفتحة على كل المذاهب والأفكار، لكن سيطرة «البويهيين» على العراق في تلك المرحلة جعلت أحوال الخلافة مضطربة، حيث نزعوا عن
الخليفة العباسي صلاحياته، وفرضوا مذهب الزيدية على البلاد، وهي فرقة شيعية تأثرت بفكر المعتزلة، وتعد الأقرب إلى «السُـنَّة».
ظهر «إخوان الصفا» في تلك المرحلة، التي أتت في أعقاب ثلاثة قرون سبقتها، التي شهدت قلاقل أمنية وصراعات عنيفة على السلطة، وتفجرت فيها ثورات اجتماعية عديدة، إلى أن استقرت الأمور نسبيا في
منتصف العصر العباسي، وبالرغم من الاضطرابات السياسية والأمنية، إلا أنها كانت مرحلة الترجمة والعلم والفلسفة والأدب والفنون.. وبقول آخر؛ كانت مرحلة «الإرهاصات» و»التأسيس»، التي بلورت المذاهب الفكرية والفقهية والفلسفية المتباينة. في تلك المرحلة، نشر عدد من المفكرين 52 رسالة، ستُعرف برسائل إخوان الصفا، ويبدو أنّ ظروف تلك الحقبة دفعت بإخوان الصفا إلى إتباع «التقية»، واللجوء للسرية؛ إما خوفا من السلطة، أو خوفا من تحريض الفقهاء للعامّة عليهم، إذ إن أفكارهم كانت غريبة ومتقدمة على أفكار عصرهم.. أو إنهم لم يكونوا مهتمين بنشر أسمائهم بقدر اهتمامهم بنشر أفكارهم.
تهدف تلك الرسائل إلى التأسيس لمذهب إسلامي ذي أبعاد كونية، يستوعب المذاهب الدينية والفلسفية كلها ويوحد بينها، وهي رسائل موسوعية الطابع، تبحث في شتى معارف عصرهم؛ منها رسائل في الإلهيات والمنطق والفلسفة والوجود. ورسائل في العلوم كالرياضيات والفلك والفيزياء، والهندسة، والجغرافيا، والمعادن والطبيعة والنبات والحيوان والجسد. ورسائل نفسانية وعقلية في الأخلاق والموسيقى والعشق. ورسائل في الفقه والشريعة. وحتى رسائل في التنجيم وفك الطلاسم.
من المدهش أن رسائلهم تحدثت عن نظرية النشوء والتطور قبل «دارون» بثمانية قرون.. كما تضمنت مقولات عن نظرية الدولة وعلم الاجتماع، اقتبسها ابن خلدون في مقدمته الشهيرة.. كما قالوا «إن الله خلق الطبيعة، لكنه لا يتدخل فيها»، وبذلك سبقوا «نيوتن» و»كيبلر» و»غاليليو»، الذين قالوا إن قوانين الطبيعة موضوعة من قبل الله، ثم تركها تعمل كما يفعل صانع الساعة.
أُعجب «إخوان الصفا» بالفلسفة اليونانية، حتى أنهم كانوا يقولون «ديمقريطس عليه السلام»، كما تأثروا بالثقافة الفارسية والهندية، وكانوا يأخذون من كل مذهب إسلامي ما يرونه صحيحا، في محاولة منهم لبلورة تيار فكري مستقل، وجامع.
قالوا عنهم «شيعة»، لكن ما ينفي تشيعهم عدم أخذهم بمبدأ الإمامية، وأنهم لا يرون حصر الإمامة في سلالة الحسين بن علي، وعدم إيمانهم بعودة المهدي، وعدم ذمِّهم لأبي بكر وعمر وعثمان، وعدم تقديسهم لعاشوراء، وغيرها من الطقوس الشيعية، رغم تمجيدهم لآل البيت.. وقالوا، إنهم من «الإسماعيلية»، لكنهم لو كانوا كذلك، لارتحلوا إلى مصر، حيث كانت الدولة الفاطمية تتبع «الإسماعيلية»، وهناك بوسعهم نشر رسائلهم دون خوف. تميز منهجهم الفلسفي عن المنهج الكلامي الاعتزالي، لكنهم تماثلوا مع المعتزلة في مسألة إعلاء العقل والتفكير. أُتهموا بالإلحاد، لكن ما ينفي إلحادهم تأكيدهم في المبدأ الأول على أن كل طرق المعرفة (البرهانية والعقلية والحسية) تقود إلى معرفة الله، وتوحيده، وتنزيه صفاته.
كفّرهم ابن تيمية وصنفهم مع الصابئة، واعتبرهم الغزالي فرقة ضالة وزنادقة، في كتابه «المنقذ من الضلالة»، وهذا لا ليس بالجديد، فالسلفية طالما ناصبت الفلاسفة العداء، واعتبرتهم ضالين، وطالما رأت في كل تجديد بدعة. حسب «التوحيدي»، فإن «إخوان الصفا» هضموا تراث الإغريق ونتاجهم الفكري، وسعوا إلى التوفيق بين العقيدة الإسلامية والفلسفة، وجعلها في إطار واحد. بمعنى أنهم ربما كانوا أولى حركات الإصلاح الديني، التي اجتهدت في سبيل التجديد، وبث الروح الحيوية والحداثة في الخطاب الإسلامي (طبعا ضمن سياق عصرهم)، من خلال منهج علمي فلسفي جدلي، منفتح على كل الأديان والعلوم.. بإتباعهم النهج السلمي الهادئ، بالاعتماد على نشر الوعي، دون عنف.
وحسب محمد عابد الجابري، فإن الرسائل عبارة عن مدونة «هرمسية» متكاملة، وهي على الرغم من أخذها من جميع المذاهب والأديان، وأخذها من أرسطو، وأنها تتخذ الإسلام لباسا شفافا، فهي لا تخفي انتماءها الهرمسي؛ إذ تحيل دوما إلى هرمس مثلث الحكمة، وإلى فيثاغوروس نظرية العقل الكلي المكلف تدبير الكون.
لم يكن «إخوان الصفا» راضين عن دولة الخلافة، وكانت لهم فلسفتهم الخاصة بالدولة، وهي تشبه المدينة الفاضلة.
ووفقا لتعريفهم الخاص بهم، هم منهج «تربوي» خالص؛ هدفهم الوصول بملَكات الإنسان الكامنة إلى مرحلة التفتح والكمال، كي يتمكن من النجاة ونيل الحرية الروحية؛ فالإنسان من وجهة نظرهم سجين في هذا العالم، وعليه تحرير نفسه وروحه وعقله عن طريق المعرفة.
وأخيراً، بتحريض من بعض الفقهاء، أمر الخليفة «المستنجد» بإحراق رسائلهم، مع كتب ابن سينا، كما أحرق «المتوكل» من قبل كتب المعتزلة.. وبذلك ينتصر فقهاء السلاطين مرة أخرى على الفلاسفة.. وليسدلوا الستار على الحقبة الذهبية للحضارة الإسلامية، فبعد تكفير جابر بن حيان، والفارابي، وابن سينا، وابن الراوندي، والتوحيدي، والكندي، وابن رشد، وابن الهيثم، وابن المقفع.. وكل من حكّم عقله وقدمه عن النقل، وكل من خالف رأي الحكام والسائد من الفكر.. من حينها، دخلنا النفق المظلم، ولا نعرف حتى الآن كيف نخرج منه.
قد يهمك أيضا :
التأقلم مع الحجر المنزلي
خفايا اغتيال أبو جهاد