تبدأ قصة كوريا منذ بداية القرن العاشر الميلادي؛ حين أنشأ الملك «جيون» مملكة «كوريو»، والتي انهارت أواخر القرن الرابع عشر بعد سنوات من الحرب والاحتلال، وعلى أنقاضها تأسست مملكة «جوسون»، والتي دامت خمسة قرون (1392 - 1897)، وكانت آخر مملكة في التاريخ الكوري، وأطول مملكة شهدت سنوات من الاستقرار.
وتدين كوريا الحالية بالفضل الكبير لشخصين عاشا في حقبة مملكة «جوسون»: الأول الملك «سيجونغ» العظيم، والثاني: العالم والمخترع «جانغ شيل»، وهذان الشخصان تشاركا حلما كبيرا، كان حينها حلما محرما، كما لو أنه أبعد من نجمة الشمال .. حلم سيدفع العالم «جانغ شيل» حياته ثمنا له، ومن أجله سيُجبر الملك على اتخاذ قرار بالغ القسوة.. هذا الحلم سيتحقق بعد خمسة قرون، لتصبح كوريا واحدة من بين أغنى دول العالم، وأكثرها علما وتطورا ورفاهية.
كانت كوريا حينها تحت رحمة الهجمات المنغولية، والقراصنة اليابانيين، والهيمنة الصينية .. لم تكن بلدا مستقلا، بل تخضع لسيطرة الإمبراطور الأكبر الذي يحكم الصين بأسرها.. كان اسمها مملكة «جوسون»، ودينها الكونوفوشسية، ولغتها الرسمية الصينية.. ومع أن نظامها ملكي مطلق، إلا أن بلاط الملك وحاشيته ووزراءه كانوا يتصرفون بعقلية التابع لإمبراطور الصين، فهم لا يخشون بطشه وحسب، بل كانوا موقنين بأن كوريا ليست إلا جزءا من الصين.
كان مجتمع «جوسون» مبنيا على النظام الطبقي، في الأسفل عامة الشعب من الفقراء والعبيد والمزارعين والعمال الذين يقدمون خلاصة تعبهم قربانا لقصر الملك، وفي أعلى الهرم، الملك وحاشيته وطبقة النبلاء والإقطاعيون..
في تلك الفترة المظلمة من تاريخ كوريا، بل ومن تاريخ العالم، كانت الأمية متفشية فيها، كما هي الحال في الصين وشرق آسيا، وفي عموم أوروبا، وأميركا التي لم تكن مكتشفة بعد .. حيث كانت طبقة الكهنوت والنبلاء تحرّم على عامة الشعب تعلم القراءة والكتابة. وحدها بلاد المسلمين كانت تشهد نهضة حضارية، وكانت جوامعها مفتوحة لكل طالب علم.
كان «سيجونغ» مفضلاً عند والده على أخويه الأكبر سناً منه؛ الأكبر ترك البلاد، والأصغر تفرغ للمعبد البوذي وأصبح راهباً؛ وهكذا صارت الساحة مهيأة لتتويجه ملكا في العام 1418.
أراد «سيجونغ» أن ينهض ببلاده، وأدرك أن العلم وحده القادر على نقلها من العتمة إلى النور؛ فاهتم بالعلم، وتقرب من العلماء، وكان متواضعا معهم، وخصص لهم مجلسا خاصا، وأنفق عليه بسخاء.
أراد «سيجونغ» مساعدة الفلاحين، فأمر بجمع التقنيات الزراعية المتبعة، ولخصها في كتيب حمل عنوان «الإرشادات الزراعية»، لكنه لاحظ تفاوت المواسم الزراعية، وتراجع المحاصيل بين سنة وأخرى، وأدرك أن السبب يعود إلى اعتماد التقويم الصيني، المستند إلى خطوط الطول للعاصمة الصينية.
وأدرك أيضا الحاجة لضبط الوقت بدقة، لتنظيم ساعات العمل، وحاجة البلاد للكثير من التقنيات الضرورية .. لكن المنظومة الثقافية بأسرها كانت حينها خاضعة لهيمنة الاحتلال، ومقيدة بقوانينه.
وذات صدفة، التقى بعبد اسمه «جانغ شيل»، فاستشعر بذكائه وعبقريته، ولاحظ دقته وبراعته في التصنيع، فأصدر مرسوما لتحريره من العبودية، وخصص له مكتبا في المجمع العلمي، ما جوبه بمعارضة العلماء والنبلاء، بحجة أنه من أصل «وضيع».
بدعم مباشر من الملك واصل «جانغ شيل» أبحاثه ومخترعاته، حتى صار يلقب بالمخترع العظيم، فاخترع نماذج مختلفة للساعة المائية، التي صار ممكنا من خلالها معرفة الوقت بدقة، واخترع أول ممطار في العالم، وصمم قبة فلكية، ورسم خارطة مفصلة للنجوم، ومن خلالها وضع أول تقويم كوري خاص، بالاستناد إلى خطوط الطول في العاصمة الكورية، ما سمح بتحديد مواقيت المواسم الزراعية، والتنبؤ بالطقس، وحتى تحديد مواعيد الكسوف والخسوف.
وفي عهده أيضا تطور الطب الشعبي، حتى صار متميزا عن الطب الصيني، كما دعم الآداب والفنون التقليدية، وشجع على دراستها.. لكن حلم الملك الأكبر، والذي لم يبح به حتى لصديقه المقرب العالم «جانغ شيل»، إلا في آخر أيامه، هذا الحلم كان اجتراح أبجدية كورية خاصة مكونة من 28 حرفاً (سيصير اسمها الهانغول)، وتعليم كل الشعب القراءة والكتابة.
بتصميمه لتقويم فلكي كوري خاص، ووضعه أبجدية كورية خاصة، والتفكير بتعليم الشعب القراءة والكتابة؛ وضع الملك نفسه في وجه المدفع مباشرة؛ فمثل هذه التوجهات كانت تعد جريمة، وتمرداً على الإمبراطور الصيني، وتعد سابقة خطيرة لا يمكن لمجلس الكهنوت وطبقة النبلاء القبول بها.
تلك الأحداث يجسدها الفيلم الكوري (Forbidden Dream)، الذي يحكي تلك الوقائع التاريخية في إطار درامي مشوق، فإمبراطور الصين ما أن أوصل إليه الوشاة (من حاشية ملك جوسون) نبأ تصميم قبة فلكية، وتقويم كوري مستقل، حتى يجن جنونه، فيستدعي ملك جوسون، ويطلب منه تدمير القبة الفلكية، وإلغاء التقويم، وجلب العالم المخترع إلى العاصمة، لإعدامه، وتحريق كل مخترعاته.
في تطور مثير للأحداث، يساوم مجلس الوزراء ملك سيجون بين السماح له بنشر أبجدية الهانغول، وبين حياة العالم «جانغ شيل»، حيث عبروا عن خشيتهم من قيامه باختراعات جديدة! فيعرف العالِم عن تلك الصفقة، وفي نهاية الفيلم، تنعقد محاكمة للعالِم بعد تلفيق تهمة له بمحاولة اغتيال الملك، فيقر بها، مع علمه أنه سيلاقي الموت، لكنه قدم حياته ثمنا لمستقبل كوريا، ولتعليم الشعب القراءة والكتابة.
واصل الملك مساعيه لتحقيق حلمه، لكنه أصيب بالعمى بسبب مضاعفات السكري، وتوفي بعد أسبوعين من عيد ميلاده الثالث والخمسين، سنة 1450.
تركت مملكة جوسون تراثاً عظيما لكوريا الحديثة، تمثل في الأدب، والشعر، والأعراف الثقافية، والمواقف الإنسانية تجاه القضايا الاجتماعية بما فيها التفاوت الطبقي، والعبودية، ومكافحة الأمية، والاهتمام بالعلم، وبذر أول بذور التكنولوجيا.. والأهم اللغة الكورية ذاتها.
وتلك كانت القاعدة الصلبة، والنواة الأولى التي تطورت فيما بعد، لتصبح كوريا الحديثة واحدة من أنجح قصص التنمية في عصرنا الحديث، وقد صارت قوة اقتصادية وتجارية عملاقة، ودولة صناعية من الطراز الأول، ومن أهم مصدري التكنولوجيا المتطورة.
بعد الاحتلال الياباني، والأميركي، والتقسيم، والحرب الكورية، وبعد أن كانت أفقر دولة آسيوية؛ كوريا اليوم لديها ثالث أفضل نظام تعليمي في العالم، وتحتل المرتبة الحادية عشرة في ترتيب أكبر اقتصادات العالم؛ يكفيها سامسونغ، وهونداي، وكيا، وإل جي.
كل هذا بفضل ملك قدّر قيمة العلم، وعالِم سخر حياته في سبيل بلده.
هل سنتعلم شيئا من التجربة الكورية؟
قد يهمك ايضا :
عــن رجـــم ثريـــا
من أسباب تأخرنا