ما تفعله الأنظمة الشمولية (من خلال تقديس الدولة والحزب ورموزهما، وجعلها بمثابة دين) يؤدي إلى تقديس السياسة نفسها، بعد تفريغها من مضمونها الحقيقي، أي بوصفها أداة لتحسين حياة المواطنين، وحل مشاكلهم، مثل البطالة والفقر، والاختناقات، وتوفير خدمات التعليم والصحة والإسكان والرفاه الاجتماعي، وتحقيق الأمن المجتمعي، وصون
السلم الأهلي، ومكافحة الفساد، والاهتمام بالبيئة، وتطوير الصناعة والزراعة والسياحة.. وبهذه العملية، تصبح السياسة شيئاً مقدساً، من اختصاص الزعيم والطبقة الحاكمة فقط، ويحظر على المواطنين الاقتراب منها.. وبالتالي عدم مساءلة الحاكم، والخضوع لسياساته، وعدم الاعتراض، وقبول قرارات الحزب بيقينية ورضا إيماني، حتى لو كان
المواطن يرى واقعه بعينيه كالجحيم ذاته.. وصولا للاستعداد للتضحية والموت في سبيل الزعيم والحزب (الثورة والوطن). وفي هذه الحالة يصبح كل الخراب والدمار وتدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، والمحسوبيات، والفقر، والتضخم، والغلاء، وانقطاع الكهرباء، وتعطيل الانتخابات، وتراجع الفنون، وأزمات السكن، وتدهور
البيئة، وتراكم النفايات.. كلها تصبح خارج نطاق السياسة، وليس للمواطن الحق بمناقشتها.. (وهي مجرد مؤامرة خارجية تستهدف القيادة)، ومن يحاول إقحامها في السياسة سيصبح طابوراً خامساً، وخائناً، ويعمل لأجندات خارجية، يتوجب التخلص منه. إليكم بعض الأمثلة لتبيان آليات عمل الأنظمة الشمولية في قهر شعوبها، وكيف نجحت نسبيا في
عمليات غسل أدمغتها، وبرمجتها على نسق أفكار الحزب الحاكم وتوجهاته: في ألمانيا النازية (وكذلك في إيطاليا الفاشية)، وبفضل الخطاب الشعبوي، وشعارات الحزب العنصرية، بتفوق العنصر الآري، وتقديس الحزب، تمكن «هتلر» و»موسوليني» من خطف قلوب الجماهير، وسوقها إلى الحرب، بكل ما تعنيه من دمار شامل. في الاتحاد
السوفييتي، اقترف «ستالين» مجازر دموية، ونفذ حملات إعدام وتهجير ونفي إلى سيبيريا طالت الملايين، بحجة تطهير الدولة والمجتمع، والقضاء على الثورة المضادة.. في الصين قاد «ماوتسي تونغ» ما أسماه الثورة الثقافية، والتي بسببها قضى نحو أربعة ملايين إنسان جوعاً، وفي حملات تصفية داخلية، بحجة تطهير الثورة، والقضاء على
البرجوازية. في كمبوديا قتل «بول بوت» قائد «الخمير الحمر» أكثر من ثلاثة ملايين إنسان بالإعدامات الجماعية والتعذيب والأشغال الشاقة، حتى أنه فرَّغ العاصمة من سكانها، وأجبرهم على السكن في الأرياف، بذريعة التخلص من الممارسات البرجوازية، وفرض تعاليم الشيوعية. وفي سياق تنميط المجتمع واختلاق تجانس شكلاني له فرض
زياً موحداً على جميع الشعب. في كوريا الشمالية، يجسد الزعيم «كم جونغ أون» أوضح أشكال النظم الشمولية، وما زال يفرض على شعبه حكماً دكتاتورياً قل نظيره، ويلزمهم باتباع ممارسات وطقوس يومية لإظهار الولاء والطاعة، واضعاً نفسه بمرتبة الإله. في تركمانستان، نصّب «نيازوف» نفسه رئيساً للجمهورية، ورئيساً للحكومة،
والقائد العام للقوات المسلحة، ورئيس مجلس الشعب، ومجلس النواب، وقاضي القضاة.. حتى أنه ألف كتاباً، اعتبره الكتاب المقدس للتركمان، وأمر بتعليق صوره في كل مكان في البلاد.. ونذكر أيضاً إمبراطور اليابان «هيراهيتو»، أيام الحقبة الكولونيالية، وحاكم رومانيا المطلق «تشاوشيسكو»، وسفاح أوغندا «عيدي أمين»، ودكتاتور تشيلي
«بينوشيه»، ودكتاتور الأرجنتين «فيديلا»، ونظام الملالي في إيران. هذا غيض من فيض، وفي الحقيقة، الأمثلة لا حصر لها، وقد ظهرت الأنظمة الشمولية في كل القارات، وعلى مدى التاريخ، وجميعها تشابهت من حيث آليات الحكم، وطريقة فرض هيمنتها على الشعب، وإسكات معارضيها، وإن اختلفت الأساليب والدرجات. في البلدان العربية،
كانت الأنظمة العربية الشمولية في بداياتها تعد شعوبها بغدٍ أفضل، وبتحرير فلسطين، وتحقيق التوازن الاستراتيجي مع العدو، وبناء مجتمع اشتراكي، وتحقيق الرخاء، وخطط التنمية.. مقابل تقشفها وصبرها، ومنح ولائها للقائد.. وفي ظل تلك الوعود مارست قمعها، ونهبت البلاد وأفقرت العباد.. اليوم، معظم الأنظمة العربية صارت شمولية (حتى
بدون حزب حاكم أوحد)، بيد أنها لم تعد تقدم أية وعود.. بل تفرض على مواطنيها السكوت والصبر والطاعة والتضحية ودفع المزيد من الضرائب مقابل أن يظل المواطن على قيد الحياة.. حتى لو عاش دون كرامة، ودون حرية. في البلدان العربية لا تقتصر المشكلة على النظم الشمولية، بل تشمل الأحزاب والنخب.. فأغلب الأحزاب السياسية
شمولية، سواء تلك التي وصلت للحكم، أم تلك التي تسعى له؛ فبنية تلك الأحزاب (الدينية والقومية واليسارية) بنية شمولية، وممارستها وفكرها وخطابها الإعلامي وحياتها التنظيمية أيضا شمولية، حتى أن بعضها يطالب بإقامة دولة شمولية ولكن بأسماء أخرى، مثل المطالبة بالخلافة (مع وعود بضمان الحريات الدينية، وحماية الطوائف)، أو
بدولة قومية (مع ادعاء بضمان حقوق الأقليات الإثنية والعرقية)، أو بدولة وطنية نقية.. لكن التجارب التاريخية أثبتت ترسخ العقلية الإقصائية والقمعية والديكتاتورية في فكر وممارسة كل القوى التي استلمت السلطة على مدى أزيد من ألف عام. المشكلة تكمن أساساً في الإنسان العربي، الذي توارث نظماً شمولية على مدى تاريخه الطويل، ولم
يعرف غيرها، فبنى نظمه الشمولية الخاصة به؛ في شخصيته، وطريقة تفكيره، وتصرفاته، وفي بيته، ومع أسرته والمحيطين به. لذلك، حتى حينما يصل إلى رأس السلطة شخص من عامة الشعب، أو إلى البرلمان، أو يتولى منصباً حكومياً رفيعاً، سرعان ما يصبح جزءاً من المنظومة الحاكمة بكل فسادها وقمعها، بل ويتحول إلى ركن من
التحالف الأوليغارشي.. طبعاً باستثناء حالات معينة. للأنظمة الشمولية ميكانيزماتها، وللشعوب الحية إرادتها.. وما يجري في لبنان والعراق يعطينا بارقة أمل.
قد يهمك أيضا :
هـل تـمـرّ الـصـفـقـة؟
الدولة المقدسة (1من 2)