في المجتمعات العربية تتخذ السجالات السياسية بين الأفراد شكل المناظرات والاستعراضات اللفظية، والحدة والتطرف في الطرح، دون أن يخرج المتحدثون برؤية جديدة أو يقدموا حلاً ما.. بعض المثقفين ساهم في تعميق هذه الأزمة وتناولوا السياسة كممارسة مترفعة، لا تتصل بالواقع ولا تنزل إلى مستوى الجماهير، منطلقين في تحليلهم السياسي من بعض المفاهيم السلبية، مستخدمين آليات
تفكير عدمية كانت توصل على الدوام إلى المجهول والغامض، أو تعود إلى نقطة الصفر، دون تنوير للجماهير. وإذا استعرضنا بصورة موجزة طبيعة وسمات الخطاب السياسي العربي، سندرك مدى تأثير هذا الخطاب على الوعي الجمعي، وكذلك على السلوك الفردي، إذ يعكس الخطاب طريقة تفكير القائمين عليه، ويدل بقدر ما على طبيعة تكوينهم النفسي، من حيث الألفاظ والمفردات (المضمون)
وطريقة صياغة الخطاب (الشكل). يمكن القول: إنّ العديد من الأحزاب السياسية العربية (إن لم يكن أغلبها)، وكذلك أغلب الناس العاديين، الذين يكتبون على وسائل التواصل الاجتماعي، يعبرون عن أنفسهم وقضاياهم بخطاب سياسي بائس، وعاطفي، وبدائي، ولا يدل على نضج في التفكير. باستثناء فئات معينة، ممن يمتلكون قدراً معقولاً من الثقافة والوعي، أو من يمتلكون مهارات الكتابة
والتعبير، ويستوفون الحد الأدنى من اشتراطاتها الفنية، والمهنية، والأخلاقية. بصورة عامة، سنجد السمات التالية في أغلب الخطابات السياسية، سواء البيانات الحزبية، أو البيانات الصحافية، أو التحليل السياسي، أو التعليق والتعقيب على حدث ما، وهذا ينسحب على الإعلام الرسمي، والشعبي والحزبي إلى حد كبير: من حيث الشكل، سنجد التشتت والتشعب، وطرح عدة مواضيع متباعدة، يقود أحدها
إلى الآخر، دون منهجية واضحة، وصولاً إلى الابتعاد عن الموضوع المطروح. كذلك سنجد اللغة الإنشائية، والحشو، والعبارات الجاهزة، والشعارات البراقة، والتنميط، والتعميم. فضلاً عن أساليب التجريح والقذف والتخوين والتكفير وتبادل الاتهامات والشتائم، واستسهال إصدار الأحكام المطلقة، والعبارات الكبيرة. ومن حيث المضمون، سنجد في كثير من الأحيان تناقضاً في الطرح، وازدواجية
في المعايير، وانتقائية غير عادلة في القراءة، أي نزع كلام الخصوم من سياقه، وإسقاط الأحكام عليه. وسنجد تسامحاً وتغاضياً عن أخطاء الذات (أو الجماعة التي ننتمي إليها) مقابل مبالغة وتضخيم في الكشف عن أخطاء الغير، فنلاحظ التسليم واليقينية تجاه الذات، والشك تجاه الطرف الآخر، أي غياب منهجية النقد الذاتي الموضوعي، واللجوء إلى التبرير بدلاً منها، ومحاولة الهروب من الحقيقة من
خلال نقل الاتهام إلى الطرف الآخر. لذا يتسم الخلاف بين الأطراف بالحدية، والفجور في الخصومة. كما قد نجد ابتذالاً وخداعاً ومخاتلة، وانفصاماً عن الواقع، وترفّعاً عن فهم التفاصيل، وعدم تحري الدقة في التعاطي مع الأخبار والمعلومات، وتصديق كل ما يصب في المصلحة الخاصة، أو ما يتوافق مع الأحكام المسبقة، حتى لو كان ذلك منافياً للعقل والمنطق. وهذا يدل على عدم الجدية في بذل
أي مجهود للوصول للحقيقة المجردة، التي تصبح مجرد شعار خادع، بينما الحقيقة أن كل طرف يريد إثبات صحة أحكامه المخزنة في عقله الباطن، والتي تتوافق مع تنشئته وميوله ومصالحه. إضافة إلى منهجية تقديس الأشخاص وتقديس الشعارات، وتقديس النصوص، وتقديس الثوابت التقليدية (الدينية والوطنية)، لدرجة أن التابوهات والمحرمات تصبح هي الهاجس والمعيار، حتى لو وصلت إلى
حدود الخرافة والهذيان. وكذلك، يزخر الخطاب السياسي بأشكال التنميط (Stereotype)، والتصنيفات الهوياتية (حتى لو كانت عنصرية)، إلى جانب الادعاءات الأيديولوجية.
كما يتسم الخطاب السياسي بالجمود، والثبات، وعدم التطور، وعدم المرونة في التكيف مع المستجدات والمتغيرات. بيد أنه قد يتغير لدى البعض، ولكن بصورة براغماتية نفعية انتهازية.
بالمجمل (دون تعميم) الخطاب السياسي العربي السائد يفتقد للتفكير العقلاني والنقدي والأخلاقي.. وآليات التفكير في العقل السياسي العربي تسيطر عليها نظرية المؤامرة، وذهنية التحريم، والذهنية الغيبية، والاستلاب الفكري، وعقلية الوعظ والإرشاد، والثقافة السماعية.. وهي سمات سلبية مَـرَضية، ربما تكون من بين أهم أسباب التخلف العربي. ولو أخذنا بيانات "حزب التحرير" مثالاً، سنجد أن
أغلب تلك السمات متحققة فيها بدرجة أو بأخرى.. (وهذا ينطبق على أحزاب أخرى عديدة)، ولا أناقش هنا المضامين السياسية والأيديولوجية والمواقف المبدئية للحزب، بل أناقش السمات الشكلية لتلك البيانات. بيانات حزب التحرير عموماً مباشرة وفجة، لغتها حزبية بامتياز.. ومنذ انطلاقة الحزب قبل أكثر من سبعة عقود ما زالت بياناته متشابهة ومكررة، بلغة إنشائية تقريرية، وقوالب جاهزة،
وأحكام مطلقة.. في التحليل السياسي نجد نظرية المؤامرة تهيمن عليها بشكل كبير: دوماً هناك حرب على الإسلام، واضطهاد للمسلمين! القوى العالمية ليس لها وظيفة سوى التآمر على المسلمين.. (علماً أن جميع الحركات الإسلامية بما فيها حزب التحرير تتخذ من العواصم الغربية مقرات رئيسية لها، وتتلقى تسهيلات عديدة منها، كما أن أوروبا استضافت المهاجرين المسلمين من كافة مناطق
الاضطهاد، وأحسنتْ استقبالهم). سياسات الغرب ديدنها الوحيد الكيد للمسلمين (لا ننفي وجود سياسات معادية، و"إسلام فوبيا"، ولكن توجد بينها مصالح متضاربة، وحروب اقتصادية أهم من حربها المزعومة على المسلمين).. الحكام العرب في المائة سنة الأخيرة جميعهم دون استثناء خونة وعملاء، ودورهم الوحيد هو محاربة الإسلام.. وجميع الدول والكيانات، خصوصاً العربية، إما عملاء
لبريطانيا، أو جواسيس لأميركا.. (علماً أن بريطانيا لم تعد قوة عظمى منذ العام 1956، ومن يومها بدأ دورها بالتراجع، وهي بالكاد ملحق بالسياسة الأميركية).. الحل الوحيد والجذري والسحري لجميع مشاكل العالم الإسلامي تنصيب الخليفة، وعودة الخلافة (علماً أن الخلافة منذ أزيد من ألف سنة، عبارة عن ممالك وراثية ونظم استبدادية). اعتقال السلطة لنشطاء من الحزب يصبح حرباً على
الإسلام (بالطبع الاعتقالات السياسية مدانة ومرفوضة)، تنظيم سباق ماراثون لطلبة المدارس من الجنسين دعوة لنشر الرذيلة، وهتك لأعراض المسلمين، واعتداء على الحرمات! ونلاحظ أن نشاطات الحزب في فلسطين تتركز في أمرين: إحياء ذكرى سقوط الدولة العثمانية كل سنة، والتحريض على السلطة الوطنية. من حق الحزب ممارسة نشاطه السياسي بكل حرية، ولكن عليه أن يصيغ بياناته
بطريقة لائقة أكثر، على الأقل من الناحية اللغوية، والامتناع عن الشتائم بكلمات بذيئة، فبالتأكيد يضم الحزب في صفوفه أساتذة في اللغة العربية، وأدباء.. (رحم الله أستاذ الأدباء أمين شنار)، فلماذا لا توكل إليهم مهمة صياغة البيانات؟ فربما نلحظ تطويراً في مضامينها وأساليبها، لعلها تصبح قابلة للقراءة.
وهي أيضاً دعوة لبقية الأحزاب.
قد يهمك أيضا :
عن ما بعد الصهيونية
عبد الغني سلامة يطلق "من سرق روايتي"